
من المعروف أن علماء الآثار البولنديين يتمتعون بسمعة عالمية رفيعة المستوى، والعراق يُعد جنة لأي عالم آثار، إذ هو مهد الحضارة الإنسانية. وعلى عكس علماء الآثار في الحقبة الاستعمارية الذين حققوا اكتشافات مذهلة ولكنهم تسببوا أيضًا في تدمير ونهب واسع للتراث المحلي، فقد اكتسب البولنديون سمعة ممتازة في الشرق الأوسط.
وصل البولنديون إلى العراق لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، في فترةٍ كانت فيها العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتطور كذلك. كان أول عالم آثار بولندي في العراق هو الشاب الموهوب يانوش ميوشينسكي، تلميذ الأستاذ الشهير كازيميش ميخالوفسكي، الذي عمل هناك بين عامي 1974 و1976. ركزت أبحاثه على المدينة الآشورية كالحو في موقع نمرود في نينوى. سعى ميوشينسكي إلى إعادة بناء الزخارف البارزة في قصر الملك آشور ناصر بال الثاني في القرن التاسع قبل الميلاد. ولسوء الحظ، ورغم النتائج الواعدة، انقطعت أعماله بسبب وفاته المبكرة، إذ قُتل في مرسين بتركيا عن عمرٍ لم يتجاوز الثلاثين عامًا.
بعد فترةٍ وجيزة، بدأت بعثة أثرية بولندية جديدة أعمالها في جزيرة بيجان على نهر الفرات في محافظة الأنبار، بقيادة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي والدكتورة الراحلة ماريا كروغولسكا، وكلاهما من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو. وقد أُجريت الأعمال بين عامي 1979 و1983، وأسفرت عن اكتشاف حصنٍ آشوري جديد يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، مما وسّع المعرفة بخطوط التحصين التي كانت تحمي تلك الإمبراطورية القديمة.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، واصل فريق بقيادة الأستاذ الراحل ستيفان كوزوفسكي والأستاذ بيوتر بييلينسكي، وكلاهما من جامعة وارسو، العمل في مواقع مثل تل السعدية في محافظة ديالى، وتل رُجيم، وتل رَفّان، ومُلفآت في نينوى، ومصنع في الأنبار، ونِمريك 9 في محافظة دهوك ضمن إقليم كردستان الحالي. وكان العمل في الموقع الأخير، الذي أُجري بين عامي 1985 و1989، بالغ الأهمية والأهمية العلمية، إذ أدى إلى اكتشاف ووضع مخططٍ كامل لمستوطنةٍ من العصر الحجري الحديث، شملت بيوتًا محفوظة مع تجهيزاتها. ويعود هذا العصر إلى الفترة الواقعة بين نهاية الألف التاسعة ومنتصف الألف السابعة قبل الميلاد. كما عُثر على نحو عشرين تمثالًا حجريًا صغيرًا، معظمها يصوّر حيوانات، بينما كان اثنان منها ذا شكلٍ إنساني.
وأظهرت الأبحاث أيضًا أنه بعد فترةٍ طويلة من الهجر، أُعيد إسكان الموقع قبل أربعة آلاف عام من قِبل الحوريين المنتمين إلى مملكة ميتاني.
كتبت زينيا كولنسكا، التي سيُذكر اسمها لاحقًا، عن موقع نِمريك في كتابها «قدر العالِم الآثاري»: «هناك وُجدت للمرة الأولى في العالم قطع من فنون العصر الحجري الحديث. وبالنسبة للعراقيين، يُعد هذا المكان من أهم المواقع على الخريطة الأثرية—موازٍ في مكانته لمدن كِش وبابل ونينوى وكهف شانيدار».
في عام 1990، انطلقت بعثة أثرية جديدة من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو، برئاسة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي، نحو العراق. وكانت وجهتها الجوهرة المعمارية في بلاد ما بين النهرين الواقعة على طريقٍ تجاري قديم يمر عبر صحراء نينوى، وهي طبعًا المدينة البارثية الخلابة والمدهشة «الحضر»، التي بُنيت في القرن الثالث قبل الميلاد. وكانت الحضر أول موقعٍ في العراق يُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1985. ركز عمل البولنديين في المقام الأول على تحصينات المدينة، لكن الحرب قطعت أعمالهم سريعًا. وقد تعرضت الحضر لأضرار جسيمة بين عامي 2014 و2017 عندما كانت تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي. وبعد أيام قليلة من طرد الإرهابيين من المنطقة، نُشر تقرير للصحفي فيتولد ريبِتوفيتش في وسائل الإعلام البولندية، بعد أن وصل إلى الموقع برفقة قوات الحشد الشعبي ووثّق حجم الدمار.
اكتشافات جديدة وتحديات حديثة
ظهرت بعثة أثرية بولندية جديدة بعد سقوط نظام صدام حسين. كانت تلك فترةً صعبة بالنسبة للتراث الثقافي العراقي. فبعد نهب المتحف الوطني في بغداد، استغرق الأمر سنواتٍ طويلة وجهودًا كبيرة لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة. حاول علماء الآثار البولنديون حماية التراث العراقي المهدد في تلك المرحلة الحرجة. ومن الجدير بالذكر أن الكتيبة العسكرية البولندية كانت الوحيدة التي ضمّت في صفوفها علماء آثار مدنيين. كانت مهامهم الأساسية توثيق وحماية المواقع الأثرية المهددة، ودعم المؤسسات العراقية المعنية بالآثار، وتدريب الجنود على حماية المعالم. كما نفذوا عمليات استطلاع ميدانية، مستخدمين أحيانًا المروحيات العسكرية لتحديد المواقع المتضررة من أعمال النهب. وكان من أبرز إنجازاتهم المسح والتوثيق عام 2007 لأنقاض مدينة واسط الإسلامية، مما ساعد على تأمينها وحمايتها من النهب.
في عام 2012، انطلقت بعثة أثرية من جامعة آدم ميكيفيتش بقيادة الأستاذ رافاو كولنسكي نحو العراق. وقد نافست إنجازاتها ما تحقق في منتصف الثمانينيات في موقع نِمريك 9. وأُجري العمل أيضًا في إقليم كردستان العراق، وكان كولنسكي نفسه ذا خبرة سابقة في العمل بالعراق، بما في ذلك في موقع نِمريك 9. وكما كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، وهي أيضًا عالمة آثار: «منذ أن أذكر، كان العراق دائمًا مجال اهتمام رافاو. ذهب إلى هناك لأول مرة عام 1985 بدعوة من الأستاذ بيوتر بييلينسكي للتنقيب في تل رُجيم. وفي العام التالي، رافق الأستاذ ستيفان كوزوفسكي في موقع نِمريك الشهير».
يركز مشروع كولنسكي الحالي، المعنون «تاريخ الاستيطان في كردستان العراق»، والذي لا يزال مستمرًا، على جرد التراث الثقافي في منطقة تبلغ مساحتها 3000 كيلومتر مربع في حوض نهر الزاب الكبير. وشملت الأعمال مسوحات سطحية أفضت إلى تحديد أكثر من 300 موقع أثري تعود إلى عصورٍ مختلفة، من الثقافات ما قبل التاريخية (مثل ثقافة حسونة) إلى العصور الحديثة. ومن أبرز إنجازات البعثة اكتشاف أجزاء من نقشٍ صخري مدمر يعود إلى 4500 عام في منطقة غُندُك عام 2013، مما أتاح إعادة بناء جزئية له. ومن اللافت أن تدميره لم يحدث في العصور القديمة، بل في عام 1996. وكما أوضح الأستاذ كولنسكي في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء البولندية: «قام مجموعة من الباحثين عن الكنوز من تركيا بوضع شحنةٍ متفجرة، وكان الهدف من التفجير فتح طريقٍ إلى كنوزٍ مزعومة خلف النقش. وبالطبع، لم يكن هناك أي كنز، لكن الدمار كان هائلًا». واعتبر الأستاذ كولنسكي أن فرادة اكتشافه تكمن، من بين أمور أخرى، في أن «ناجحنا في إعادة قطعة أثرية إلى العلم كانت تبدو مفقودة إلى الأبد».
ساعدت أبحاث البعثة الأثرية البولندية في كردستان، التي شارك فيها أيضًا علماء من جامعة وارسو، على توضيح توسع ثقافة الورك (Uruk) المنحدرة من جنوب العراق إلى المناطق المجاورة في أواخر العصر النحاسي. إنها قصة مثيرة عن الغزوات والاستيطان في عصور ما قبل التاريخ، مدفونة في الأرض ومُسجلة في اللُقى الأثرية. وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ كولنسكي وفريقه كانوا يفكّون رموز هذه القصة بين عامي 2012 و2017، بينما كانت المعارك العنيفة ضد إرهابيي داعش تدور على بعد 50 إلى 60 كيلومترًا فقط من مواقعهم. وقد كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، التي شاركت في البعثة، كتابها المميز «قدر العالِم الآثاري» الذي نُشر عام 2014. وعنوان الكتاب بحد ذاته لافت، إذ إن عالم الآثار يحفر غالبًا ليكتشف أواني قديمة، بينما يأكل بعد عمله من أوانٍ حديثة. يجمع الكتاب بين وصفٍ للطبخ الشرقي وسردٍ حيٍّ لأعمال البعثة ومغامراتها في مجتمعٍ أبوي الطابع.
لم يقل الزوجان كولنسكي كلمتهما الأخيرة في العراق بعد. ففي أغسطس 2025، أُطلقت المرحلة الجديدة من مشروعهما في كردستان العراق، المتمثلة في دراسة العمارة الكنسية المسيحية في وادي نهلة بجبال كردستان. ومن المعروف أن المسيحيين تواجدوا هناك منذ القرن التاسع على الأقل، لكن الأستاذ كولنسكي يسعى لتحديد زمن ظهورهم بدقة.
ولا تقتصر التعاونات العلمية بين بولندا والعراق على علم الآثار. فقد درس العديد من العراقيين وتخرجوا بدرجات الدكتوراه من الجامعات البولندية، وبقي بعضهم في بولندا بينما عاد آخرون إلى وطنهم. فعلى سبيل المثال، في عام 2020، كان هناك 319 طالبًا من العراق يدرسون في بولندا، معظمهم في مجالات الطب والإدارة والبناء. لكن البولنديين أيضًا درسوا في العراق، ومن بينهم أحد أبرز الدبلوماسيين البولنديين، يان ناتكانسكي، الذي درس اللغة والثقافة العربية في بغداد بين عامي 1965 و1969. وقد شغل لاحقًا مناصب سفير في دول مثل الكويت ومصر، وأصبح من أكثر الشخصيات احترامًا في مجال نشر المعرفة عن العالم العربي في بولندا.