
تُعد بولندا واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين للعراق في الاتحاد الأوروبي، وتشهد التجارة بين البلدين نموًا مستمرًا. وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن أيام المجد التي شهدها التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فإنها بلا شك تكتسب زخمًا واضحًا، وتُظهر اتجاهًا تصاعديًا واضحًا، وتفتح آفاقًا جديدة أمام رجال الأعمال البولنديين في هذا السوق الواعد، وإن كان يتطلب الكثير. فبعد سنواتٍ من عدم الاستقرار، أصبح العراق شريكًا تجاريًا متزايد الأهمية لبولندا في الشرق الأوسط، وهو ما تؤكده المؤشرات التجارية الصاعدة وتكثيف الاتصالات السياسية والاقتصادية. وعلى وجه الخصوص، تضاعفت قيمة الصادرات البولندية إلى العراق خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما يُعد مؤشرًا جيدًا جدًا للمستقبل.
تُصدر بولندا إلى العراق بالأساس المنتجات الزراعية والغذائية. فالأغذية البولندية، بما في ذلك منتجات الألبان، ومشتقات الحبوب، واللحوم، تحظى بتقديرٍ كبير من المستهلكين العراقيين. وتشمل مجموعات السلع الأخرى المُصدَّرة إلى السوق العراقي المنتجات الكيماوية، والآلات والمعدات (وخاصة تلك المستخدمة في الزراعة والصناعة)، إضافةً إلى المعادن الأساسية ومنتجاتها. وفي المستقبل، يمكن لبولندا أيضًا أن تطوّر تعاونها مع العراق في قطاعات الطب والصيدلة، خاصةً وأنها وجهة مشهورة للسياحة العلاجية القادمة من العراق. كما تستطيع بولندا أن تقدّم دعمها للعراق في مجال تحديث الزراعة وإدارة الموارد المائية ونقل التكنولوجيا في هذا المجال. ويُظهر اهتمام العراق بمثل هذا التعاون زيارة وفدٍ عراقي من لجان الزراعة والمياه والاقتصاد والتجارة في البرلمان العراقي، التي جرت في ديسمبر 2024. التقى الوفد بممثلين عن غرفة التجارة البولندية، وزار شركة SPAW-MET للآلات الزراعية، حيث تم توقيع خطاب نوايا للتعاون. كما يتطور التعاون أيضًا على مستوى الغرف التجارية المحلية وحكومات المقاطعات، وخاصة في مقاطعات بولندا الكبرى، وبولندا الصغرى، وبودكارباتشيه، إضافة إلى الغرفة الغربية للتجارة، والمنطقة الاقتصادية في ستاراخوفيتسه، وجمعية المبتكرين الريفيين.
يمكن أن يمتد التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي أيضًا إلى مجالاتٍ أخرى، وخصوصًا الطاقة. فقد اشترت بولندا النفط العراقي في السابق، ويمكنها أن تدعم بخبرتها تطوير سوق تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة في العراق، والتحول الطاقي، وتطوير قطاع الاستخراج. كما يُعد توريد المعدات العسكرية قطاعًا واعدًا. إضافة إلى ذلك، تمتلك بولندا خبرةً واسعة في تحديث الطرق والسكك الحديدية، وهي أيضًا مصنّع للمعدات والعربات الحديدية، مما يجعلها شريكًا ممتازًا للعراق في تنفيذ مشروع البنية التحتية المعروف باسم “طريق التنمية” أو “القناة الجافة”، الهادف إلى ربط الخليج العربي بأوروبا. ومن الجدير بالذكر أن لبولندا تاريخًا طويلاً في تنفيذ المشاريع البنية التحتية في العراق، وأن مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1 في العراق اكتسبت تقديرًا كبيرًا ولا تزال تُذكر حتى اليوم.
تاريخ البنية التحتية البولندية في العراق
بدأ التعاون الاقتصادي بين بولندا والعراق رسميًا عام 1959 بتوقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني. وتميزت هذه الفترة بمشاركة الشركات البولندية الفعّالة في مشاريع البناء والصناعة في العراق. وكان العراق بالنسبة لبولندا أحد أهم الشركاء التجاريين في الشرق الأوسط.
في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، نفذت شركات بولندية مثل Polimex-Cekop وBudimex وDromex وElektromontaż وNaftobudowa نحو 25 مشروعًا استثماريًا ضخمًا في العراق. وشملت هذه المشاريع:
- إنشاء الطرق السريعة والطرق العامة (Dromex)
- بناء الجسور
- إنشاء المصانع والمنشآت الصناعية، بما في ذلك مصانع الأسمنت (Elektromontaż-Eksport)
- خطوط السكك الحديدية (Polimex)
- محطات توليد الطاقة
- شبكات المياه والصرف الصحي.
بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين ما بين 200 و250 مليون دولار سنويًا. وكان العنصر الأساسي في الصادرات البولندية، إلى جانب خدمات البناء، هو توريد المعدات العسكرية، التي شكلت أكثر من 70٪ من الصادرات، بينما كان النفط الخام هو الاستيراد الرئيسي لبولندا. ويُقدَّر أن نحو 50 ألف بولندي عملوا في العراق خلال هذين العقدين. ولم تخلُ هذه الأعمال من الخسائر، إذ توفي حوالي 50 عاملًا بولنديًا في حوادث، معظمها أثناء بناء الطريق السريع. وتحمل حادثة وفاة تيريزا روزنوفسكا، التي كانت تعمل في مركزٍ طبي تابع لشركة Dromex وكانت زوجة أحد مديري فروع الشركة في العراق، ليش روزنوفسكي، مكانةً خاصة في ذاكرة العراقيين. فقد أثبت السفير البولندي الأسبق في العراق، كشيشتوف فومينسكي، أنها توفيت في حادث أثناء توجهها من معسكر تل لحم نحو الناصرية، وأن قبرها الرمزي في موقع الحادث موّله زوجها. ولا يزال هذا القبر قائمًا حتى اليوم، وقد ارتبط بأسطورة رومانسية في ذاكرة السكان المحليين حول فتاةٍ بولندية شابة تُعرف في العراق باسم “تالا”، جاءت لزيارة خطيبها المهندس في عيد الميلاد عام 1982. وكما كتب فومينسكي: «كان الخطيب يأتي إلى قبرها بالزهور يوميًا لعدة سنوات حتى نهاية عمله في العراق. وأصبح المكان رمزيًا وما زال يحتفظ بهذه المكانة في وجدان السكان المحليين حتى اليوم. تحوّل إلى أسطورة غامضة مع مرور الزمن، والحروب المتعاقبة، وضعف ذاكرة البشر. وقد أعيد ذكرها مؤخرًا في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي المحلية، التي أثارت اهتمام الإعلام البولندي والصحفيين الأوروبيين عند تداولها».
كان أول مشروعٍ بنته بولندا في العراق هو جسر دجلة قرب تكريت، الذي أنجزته شركة Budimex-Cekop بين عامي 1969 و1971. وهو جسر خرساني سابق الإجهاد يبلغ طوله 800 متر وله أهمية استراتيجية كبيرة للعراق. قاد العمل حينها المهندس زيجمونت باتر، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عامًا فقط، وقد حصل على درجة الماجستير في الهندسة المدنية المتخصصة في الجسور والهياكل التحتية من جامعة وارسو للتكنولوجيا قبل خمس سنوات فقط. اكتسب باتر شهرة كأحد أبرز مهندسي الجسور البولنديين، وعاد إلى العراق عام 1980 ليعمل كبير المهندسين في شركة Dromex لمشاريع الاتصالات والبناء الخارجي.
كان العراق آنذاك من أسرع الدول العربية نموًا، وقد سمحت له عائدات النفط بتمويل عملية التحديث. أما بولندا فكانت تملك يدًا عاملة رخيصة لكنها شديدة الكفاءة. وبعد بناء الجسر في تكريت، جاءت طلبيات جديدة شملت مصانع السكر والأسمنت والصلب، والمجمعات السكنية، والقنوات، والسدود. ومع ذلك، فإن أعظم إنجازٍ استثماري لبولندا في العراق كان مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1، الذي يربط ميناء أم قصر على الخليج العربي بمدينة الرمادي في محافظة الأنبار، حيث يتفرع إلى قسمين يؤديان إلى الحدود مع الأردن وسوريا. يبلغ طول هذا الطريق 1200 كيلومتر ويمر عبر البصرة والناصرية والديوانية والحلة وبغداد والفلوجة والرمادي. بين عامي 1981 و1989، بنى البولنديون مقطعين رئيسيين من أصل 13 قسمًا، بلغ مجموع طولهما 220 كيلومترًا.
كان أول قسمٍ تبنّته شركة Dromex هو المسمى R/7 من الناصرية إلى الرميلة في محافظة البصرة، وبلغت قيمته حينها 300 مليون دولار. وكان المشروع صعبًا جدًا من الناحية اللوجستية والفنية. صُمم الطريق السريع وفق المعايير الألمانية الغربية باعتباره “غير قابل للتدمير”، مع مراعاة حمولة محورية قدرها 25 طنًا. واضطر مهندسو الطرق البولنديون إلى بناء ليس الطريق فقط، بل أيضًا جميع المرافق المساندة، بما في ذلك المقالع لاستخراج الركام (حوالي 55 ألف متر مكعب شهريًا)، ومصانع الخرسانة والإسفلت، ومئات الكيلومترات من طرق الخدمة، وخط سكة حديد بطول 55 كيلومترًا لنقل الركام.
جرت الأعمال في ظروف مناخية قاسية للغاية بالنسبة للبولنديين، حيث بلغت درجات الحرارة 70 درجة مئوية. وكما يتذكر المهندس فالدمار كوزوفسكي، الذي كان مسؤولًا عن العقود في العراق آنذاك، على موقع Inżynier Budownictwa (المهندس المدني): «إذا أضفت إلى ذلك الأحكام العرفية في بولندا، والحرب العراقية-الإيرانية، ودرجات الحرارة المرتفعة، والعواصف الرملية، والانفصال عن الأحباء لأكثر من عام، يمكن القول إن عمّال الطرق البولنديين لم يعملوا من قبل في ظروفٍ صعبة كهذه». كما يذكر كوزوفسكي أن أكثر من 11 ألف شخص مرّوا عبر موقع البناء، وبلغ عدد العاملين في ذروته 3 آلاف عامل. ولم تستطع جميع الشركات تحمل هذه الظروف. فقد انسحب اليابانيون، الذين كانوا يبنون القسم R/9 الواصل بين بغداد والرمادي، من العقد عام 1987، واقتنع العراقيون بأن البولنديين وحدهم قادرون على إكمال الـ75 كيلومترًا المتبقية من ذلك المقطع، وهو ما حدث بالفعل.
وعلى الرغم من أن Dromex كانت الرائدة في قطاع الطرق، فإن شركات بولندية أخرى نفذت أيضًا العديد من الاستثمارات المهمة في العراق، من بينها:
- Polimex-Cekop: شاركت في بناء منشآت صناعية متكاملة وتركيب المعدات، بما في ذلك مصانع كيماوية وصناعية.
- Budimex: تخصصت في مجال مواد البناء وإنشاء المناجم، وأكملت بناء أحد أكبر مصانع الفولاذ في البصرة.
- Elektromontaż-Eksport وElektrim: مسؤولتان عن بناء محطات توليد الكهرباء وتوريد المعدات الكهربائية والتركيبات، مثل إنشاء المجمع الميكانيكي في التاجي ببغداد.
- Naftobudowa: نفذت مشاريع في قطاع النفط.
- Instalexport: عملت في قطاع التركيبات الهندسية.
لقد أثبتت بولندا أنها شريك موثوق للعراق، والعراق اليوم بلدٌ يشهد تطورًا ديناميكيًا بعد عقودٍ مأساوية، وهذا كافٍ لأن يعود البلدان إلى مستوى التعاون الاقتصادي الذي شهده عصرهما الذهبي.