Bez tytułu

الروابط الثقافية بين بولندا والعراق: المتنبي على نهر الفيستولا، وكوخانوفسكي على نهر دجلة


يُعدّ ترجمة الشعر البولندي إلى العربية تحديًا كبيرًا، تمامًا كما هو الحال في ترجمة الشعر العربي إلى البولندية. فالمطلوب ليس فقط الحفاظ على معنى الكلمات، بل أيضًا على الرسالة الكامنة فيها، والأهم من ذلك إيقاع القصيدة وموسيقاها الداخلية. لكن التحديات وُجدت لتُواجه. هذا ما فعله الشاعر العراقي البارز حاتف الجنابي، المقيم في بولندا منذ نصف قرن. ففي مارس 2021 أصدر من دار المدى للنشر في بغداد–بيروت عملًا ضخمًا بعنوان «خمسة قرون من الشعر البولندي من كوخانوفسكي حتى عام 2020». وعلى امتداد 912 صفحة جمع أكثر من 400 قصيدة لـ65 شاعرًا وشاعرة بولنديين بترتيبٍ زمني. وكان الجنابي قد ترجم سابقًا أعمال كُتّابٍ وشعراء مثل آدم ميكيفيتش، تشيسواف ميووش، فيسوافا شيمبورسكا، يوليوش سواڤاتسكي، زبيغنيف هربرت، تاديوش روزيفيتش، ستانيسواف لِم، ستانيسواف غروخوڤياك، آدم زاغايڤسكي، إدوارد ستاخورا، رافاو ڤوياشِك، ريشارد كابوشينسكي، أولغا توكارتشوك، وليشِك كواكوفسكي.

من المعروف منذ زمنٍ بعيد مدى حبّ العراقيين للأدب. ويقول المثل العربي القديم: في القاهرة يُكتب، وفي بيروت يُطبع، وفي بغداد يُقرأ. وعلى ضفاف دجلة وُلدت أعمال عمالقة الأدب العربي مثل المتنبي وأبي نواس. عاش المتنبي في زمنٍ لم تكن فيه على نهر الفيستولا بعدُ أعمال أدبية، وكانت بولندا ما تزال تتأسس في عهد أول حكّامها المسيحيين، ميزكو الأول. بعد نحو تسعمئة عام، أُعجب شاعر بولندا الأعظم آدم ميكيفيتش بجمال شعر المتنبي—الذي وصل إليه غالبًا عبر الترجمات الفرنسية—فكتب قصيدته «المتنبي» المستوحاة من إحدى قصائده. لم تكن القصيدة ترجمةً حرفية بل كانت إعادة صياغة بارعة وتماهٍ مع موقف الشاعر العربي—الكبرياء والشجاعة البدوية—وهو ما انسجم تمامًا مع روح الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر.

يعرف الجميع في بولندا قصص «ألف ليلة وليلة»، وإن لم يدرك الجميع صلتها الوثيقة بالعراق. وقد عمل مستعربون بولنديون بارزون مثل الأستاذ يوسِف بيلاڤسكي، مؤلف كتاب الأدب العربي الكلاسيكي، والأستاذ يانوش دانِتسكي، على ترجمة الأدب العراقي الكلاسيكي والحديث ونشره. وفي عام 1977 خُصص عددٌ كامل من مجلة «الأدب في العالم» (Literatura na świecie) للأدب العربي، وخصوصًا للأدب العراقي.

العراق والحرب في الأدب والسينما البولندية
جعلت التجارب الصعبة التي مرّ بها العراق في العقود الأخيرة البلاد ترتبط في الوعي البولندي بالحرب. ونتيجةً لذلك أصبحت الموضوعات العراقية في الأدب والسينما البولندية مرتبطةً بالحرب أيضًا، وغالبية الأعمال خلال السنوات الأخيرة تنتمي إلى أدب الواقع والوثائقية. وأبرز ترجمة بولندية للأدب العراقي الحديث في السنوات الماضية هي رواية «فرانكنشتاين في بغداد» للكاتب أحمد سعداوي، التي نُشرت في بولندا عام 2018، وتدور أحداثها في بغداد في فترة الاضطراب التي أعقبت سقوط صدام حسين.

ومن بين الكتّاب البولنديين الذين لا يمكن تجاهلهم عند تناول الموضوع العراقي في الأدب البولندي المعاصر مارتسين فالينسكي، وهو دبلوماسي سابق وعقيد متقاعد في الاستخبارات البولندية. أمضى فالينسكي سنواتٍ طويلة في العراق، بما في ذلك خلال الحرب ضد داعش. غير أن إلهامه لكتابه الأول جاء من أحداث الحرب العالمية الثانية، إذ عبر الجيش البولندي أثناء الحرب من الاتحاد السوفيتي عبر العراق في طريقه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية.
كتب فالينسكي مع ماريك كوزوبال ثلاثيةً جاسوسية عام 2019، تجري أحداثها في زمنين مختلفين: الأول خلال الحرب العالمية الثانية، والثاني في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في البُعد الأول البطل هو الجندي والعميل البولندي ميتشيسواف كلاينر، المكلف بمهمة إنقاذ الأعمال الفنية البولندية المهددة بالنهب الألماني والسوفيتي. أما في البُعد الثاني، فالبطل هو العقيد مارسين وودينا، أحد أبرز ضباط الاستخبارات البولندية المتمركزين في العراق، الذي يحاول في الجزء الأول من الثلاثية، في كتاب «عملية رافائيل»، كشف مصير لوحة «بورتريه الشاب» للفنان رافائيل سانتي التي اختفت خلال الحرب العالمية الثانية. وفي مساره يصطدم بوكلاء روس يعملون في العراق.

قادت نجاحات فالينسكي الأدبية إلى مزيدٍ من الروايات التجسسية وإلى التخطيط لتحويل «عملية رافائيل» إلى فيلم سينمائي. ويُذكر أن المؤلف قدّم وصفًا متقنًا للواقع العراقي قديمًا وحديثًا، فكتبه مليئة بتفاصيل العادات والمطبخ والعمارة والطبيعة العراقية، مما يُتيح للقارئ البولندي فهمًا أعمق لهذا البلد. كما يجدر الإشارة إلى فيلمين بولنديين دارت أحداثهما في العراق:
الأول «عملية ساموم» أخرجه فلاديسواف باسيكوفسكي عام 1999، ويروي قصة إحدى المهمات السرّية البولندية في العراق عام 1990.
أما الثاني «كربلاء» من إخراج كشيشتوف فوكاشيفيتش، فتدور أحداثه خلال الحرب الأهلية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين. أُنتج الفيلم عام 2015 بالاستناد إلى تقارير الحرب التي كتبها مارتسين غوركا وآدم زادڤورني والكتاب السيري لـغريغوج كاليتسياك.

مراسلو الحروب والتبادل الثقافي
تشتهر بولندا بتقاليدها الأدبية في صحافة الحروب، وقد نال ريشارد كابوشينسكي شهرة عالمية في القرن العشرين. لذلك ليس من المستغرب أن تُكتب عدة كتب من هذا النوع عن سقوط صدام حسين والاحتلال والحرب الأهلية والحرب ضد داعش. كرّس الصحفي البولندي البارز بافاو سمولينسكي كتابين عن العراق. الأول بعنوان «العراق، جحيم في الجنة» صدر عام 2004 بعد سقوط صدام مباشرةً، وصوّر واقع بداية الاحتلال وحكم الديكتاتور الدموي. أما الثاني، الصادر عام 2016 بعنوان «اللوز الأخضر أو لماذا يحتاج العالم إلى الأكراد»، فقد نقل القارئ البولندي إلى كردستان العراق.
ويُذكر أيضًا كتاب الصحفي بيوتر كراشكو «العراق في الحرب» الصادر عام 2012، وكتاب المراسل الحربي ماريُوش زافادسكي «العراق الجديد الرائع» في العام نفسه. وفي عام 2008 نشر الدبلوماسي البولندي البارز رومان خالاتشكيفيتش، سفير بولندا في العراق بين عامي 1997 و2002، كتابه «غروب الديكتاتور: العراق بعينيّ»، الذي قدّم رؤيةً فريدةً عن السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين.

وفي عام 2014، بعد هجوم داعش على الموصل، عندما اجتاحت وسائل الإعلام العالمية موجة من الآراء ترى أن العراق دولة فاشلة تواجه التفكك، قرر الصحفي فيتولد ريبِتوفيتش دحض هذه الصورة السلبية للعراق. اعتمد كتابه «الله أكبر: الحرب والسلام في العراق» على تجاربه الشخصية كمراسلٍ حربي وعلى رحلاته ومقابلاته في مناطق العراق غير المتأثرة بالحرب، ومن هنا جاء ذكر كلمة «السلام» في العنوان. فالكتاب أكثر من مجرد تقريرٍ حربي، إذ يحتوي أيضًا على شهادات من القتال الذي خاضته القوات العراقية كافة ضد داعش، ومقابلات مع اللاجئين، ويقدّم خلفية تاريخية وسياسية واجتماعية أوسع مرفقة بوصفٍ لمدن بغداد والنجف وكربلاء والأنبار ونينوى وكردستان وغيرها. وكان ريبِتوفيتش قد نشر قبل ذلك كتابه «اسمي كردستان»، الذي خصّص جزءًا كبيرًا منه لعادات وتاريخ الأكراد العراقيين.

ولا يقتصر التعاون الثقافي بين بولندا والعراق على الأدب. فقد زار فنانون عراقيون بولندا مراتٍ عديدة، وأدّى فنانون بولنديون عروضهم في العراق. على سبيل المثال، في أكتوبر 2010 قدّم فريق كيتشيرا للغناء والرقص الليمكي من مدينة ليغنيتسا عروضًا في مهرجان بمدينة السليمانية الكردية، بينما كان قد زار بولندا قبلها فريقٌ كردي للمشاركة في مهرجانٍ مماثل في ليغنيتسا. كما تُنظم في بولندا بانتظام معارض مخصصة لثقافة الأكراد العراقيين. ويجب تعزيز هذا الاتجاه، فكلٌّ من بولندا والعراق يمتلك ثقافة غنية للغاية، والتعرّف المتبادل بينهما يوسّع آفاق المجتمعين ويُسهم في تعزيز الفهم المتبادل بين الشعبين.