
ترتبط التقاليد العلمية التي تجمع بين بولندا ولبنان بتاريخ طويل يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد بدأت هذه التقاليد بجهود الأب اليسوعي البولندي ماكسيميليان ستانيسواف ريووا، وهو مبشّر وعالِم بارز لعب دوراً محورياً في تطوير التعليم في الشرق الأوسط. وفي عام 1839، وبمبادرته، تأسّس في بيروت الكلّية الآسيوية (Collegium Asiaticum)، وهي مدرسة يسوعية تحوّلت عام 1875 إلى جامعة القديس يوسف (Université Saint-Joseph, USJ). كانت هذه أول مؤسسة تعليم عالٍ حديثة في المنطقة، وشكّلت بداية رمزية لحضور الفكر التربوي البولندي في لبنان.
إنّ نشاط الأب ريووا، الذي أتقن اللغة العربية واطّلع على ثقافة الشرق الأوسط، لم يترك أثراً في تاريخ التعليم فحسب، بل بقي أيضاً حيّاً في ذاكرة المجتمع المحلي. فما زالت جامعة القديس يوسف تستذكر مؤسّسها البولندي، وقد كشفت بعد مئة عام على وفاته لوحة تذكارية مخصّصة له في بيروت. ومن هذه الحقبة أيضاً تنبع حلقة أخرى من الروابط الفكرية البولندية-اللبنانية، وهي زيارة الشاعر يوليوش سوافاتسكي عام 1837. ففي دير غزير وضع الشاعر النسخة الأولى من عمله أنخيلي، وهو عمل استلهمه من الأجواء الروحية للبنان. وقد شكّل هذا اللقاء بين الثقافات والأفكار إحدى البدايات التي نمت منها لاحقاً تقاليد راسخة للحوار العلمي والثقافي بين البلدين.
علم الآثار وحماية التراث
منذ تسعينيات القرن العشرين يتطور التعاون البولندي-اللبناني في مجال علم الآثار بشكل ديناميكي. فمنذ عام 1996 يجري علماء الآثار من جامعة وارسو، بالتعاون مع الشركاء اللبنانيين، حفريات منتظمة في المستوطنات القديمة خيم وجِيّة (Porphyreon) على الساحل الفينيقي. وخلال أكثر من عشرين موسماً من البحث، اكتشفت البعثة البولندية بقايا مستوطنتين محفوظتين جيداً من العهدين الروماني والبيزنطي، بما في ذلك منازل، ومعبد روماني، وكنائس مسيحية مبكرة مزوّدة بفسيفساء، ومعصرة زيتون. وقد وفّرت هذه الاكتشافات معرفة قيّمة حول الحياة اليومية والاقتصاد في لبنان القديم.
وبالتوازي مع ذلك، قام المرمّمون من أكاديمية الفنون الجميلة في وارسو بترميم مئات الأمتار المربعة من الفسيفساء واللوحات الجدارية، منقذين العديد من الآثار من التلف. وقد تُوّج هذا الإنجاز بمعرض بعنوان “الناس، الأماكن، الآثار. 20 عاماً من التعاون البولندي-اللبناني في علم الآثار والترميم (1996–2016)” الذي نظّمه في بيروت كلٌّ من مركز الآثار في البحر المتوسّط بجامعة وارسو، وسفارة جمهورية بولندا في لبنان، والمعهد الفرنسي.
الدعم للتعليم والبنية التحتية العلمية
يشمل التعاون العلمي الحديث بين بولندا ولبنان ليس البحوث فحسب، بل أيضاً إجراءات تنموية ملموسة. ويُعدّ لبنان أحد البلدان ذات الأولوية في برنامج المساعدات البولندية، الذي تُنفَّذ في إطاره منذ عدة سنوات مشاريع تدعم التعليم والبنية التحتية المدرسية والسلامة العامة. ويشكل تحديث المؤسسات التعليمية أحد المجالات الأساسية. ففي العديد من المدارس تم تركيب ألواح شمسية توفّر تدفقاً مستمراً للطاقة رغم الأزمة الكهربائية. وعلى سطح مدرسة سان سافور في جونيه (Djayta) ثُبِّتت بطاريات شمسية، كما أُنشئ في المدرسة نفسها مختبر علمي حديث مجهّز بمعدات احترافية لإجراء التجارب. وقد سمح ذلك للطلاب الأكبر سناً بالتعلم من خلال الممارسة، وتطوير مهارات ضرورية للاقتصاد المعاصر.
ويمثّل مكافحة الإقصاء الرقمي جزءاً مهماً من هذه الجهود. ففي مركز الرعاية Foyer de la Providence في بيروت، الذي يعتني بالأطفال الأيتام والمحتاجين، أُنشئت مختبرات حاسوب متنقلة وثابتة. وقد مكّنت هذه المختبرات الطلاب من الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة ورفعت مستوى جودة التعليم.
كما تدعم بولندا البنية التحتية والسلامة العامة. ففي مراكز الدفاع المدني اللبناني في بيروت، جرى تحديث شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، مع تركيب إضاءة تعمل بالطاقة الشمسية. وبالتعاون مع مؤسسة IHelp Institute البولندية، تم تدريب كوادر الدفاع المدني والصليب الأحمر والدفاع ضد الحرائق، مع توفير معدات جديدة وتعزيز جاهزيتهم التشغيلية.
وفي إطار مشاريع التعليم الدامج في شمال لبنان، أُنشئت في بلدة زغرتا ورشة طبخ مخصّصة للأطفال والبالغين من ذوي التوحّد، تهدف إلى تطوير مهارات حياتية عملية. كما جرى بالتعاون مع المنظمة البولندية للإغاثة الإنسانية دعم مركز تدريبي في منطقة الطيونة في بيروت، يقدّم دورات مهنية للنساء والشباب.
وتُظهر هذه المبادرات الواسعة النطاق أن بولندا تدعم بشكل فاعل تنمية رأس المال البشري والعلمي في لبنان. فتحسين ظروف التعلّم، بدءاً من توفير الطاقة وتجهيز المدارس وصولاً إلى التدريب المهني، ينعكس في فرص تنموية حقيقية للجيل اللبناني الشاب.
الشراكات الأكاديمية وتبادل الطلاب
يُعدّ التواصل الأكاديمي والبحثي المباشر أحد أهم ركائز التعاون العلمي بين بولندا ولبنان. إذ تقيم الجامعات البولندية شراكات متزايدة مع المؤسسات اللبنانية، مما يعزز تبادل المعرفة والخبرات وأفضل الممارسات.
ومن أبرز الأمثلة على هذا التعاون الاتفاق المبرم بين كلية الهندسة المعمارية في جامعة كراكوف التقنية والجامعة اللبنانية الأميركية (Lebanese American University). وتتيح المشاريع المعمارية المشتركة للطلاب وأعضاء هيئة التدريس في الجامعتين الاستفادة من الخبرات والتقاليد الهندسية المختلفة، وإبداع حلول تصميم حديثة مستوحاة من التراثين الأوروبي والشرق أوسطي.
وفي مجال العلوم الاجتماعية والسياسية تتوثق الشراكة بين المعهد البولندي للشؤون الدولية (PISM) ومعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في جامعة بيروت. وتركّز الأبحاث المشتركة والندوات وتبادل الخبراء على تحليل السياسات الدولية وقضايا الأمن في الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه يزداد عدد الطلاب اللبنانيين الذين يستفيدون من فرص التعليم في بولندا. إذ يقدّم الحكومة البولندية للطلاب اللبنانيين برامج منح دراسية مرموقة، خصوصاً في التخصصات التقنية والطبيعية والمعلوماتية. ويُعدّ برنامج المنح الدراسية باسم ستيفان باناخ، الذي تديره الوكالة الوطنية للتبادل الأكاديمي (NAWA)، من أهم هذه البرامج، إذ يتيح للطلاب المتميزين من لبنان متابعة دراسات الماجستير مجاناً باللغة البولندية أو الإنجليزية في الجامعات البولندية.
وبفضل هذه المبادرات يصبح خريجو الجامعات البولندية من اللبنانيين سفراء طبيعيين للعلم والثقافة البولندية في وطنهم، مما يعزز الروابط الأكاديمية ويبني جسور تعاون راسخة للمستقبل.
العمل المشترك من أجل البيئة
أصبحت حماية الطبيعة أحد أهم مجالات التعاون بين بولندا ولبنان، حيث تجمع بين العلم والتعليم والدبلوماسية البيئية. ولها أهمية خاصة في العناية المشتركة بالطيور المهاجرة التي تعبر كل عام من أوروبا إلى إفريقيا عبر السماء اللبنانية. ومن بينها اللقالق البيضاء التي تُعد رمزاً للحياة البرية البولندية والتي تتعرض للصيد غير القانوني. ومنذ سنوات طويلة تنفّذ سفارة جمهورية بولندا في بيروت حملات إعلامية ومشاريع بيئية تهدف إلى تعزيز الوعي المجتمعي في مجال حماية الطبيعة والتنوع البيولوجي. وكان من أمثلة هذا التعاون الزيارة الدراسية إلى بولندا في أواخر أيلول وبداية تشرين الأول 2025، المنظمة لأعضاء الجمعية اللبنانية للطيور المهاجرة برئاسة الدكتور ميشال ساوان.
خلال إقامتهم في بولندا، التقى علماء الطيور اللبنانيون بباحثين بولنديين بارزين – البروفسور برزيميسواف بوسه، مؤسس برنامج دراسات هجرة الطيور “عملية البلطيق”، والبروفسور ماغدالينا ريميسيفيتش، مديرة محطة أبحاث هجرة الطيور في جامعة غدانسك. كما شارك الضيوف في مراقبات ميدانية في محطة حلقات الطيور على بحر البلطيق، وخضعوا لتدريب في مركز تأهيل الطيور المحمية في حديقة الحيوانات في وارسو. وفي إطار الزيارة، زاروا أيضاً بلدية زبوتشين في منطقة مازوفيا، حيث يُخطط لتنفيذ مشروع تعليمي باسم “مركز اللقلق”، يهدف إلى إشراك المجتمع المحلي في الأنشطة البيئية.
وتؤكد الجهود المشتركة بين بولندا ولبنان في هذا المجال أن العناية بالبيئة الطبيعية أصبحت جزءاً من الدبلوماسية الحديثة والتعاون العلمي. ويرى البلدان أن حماية الطبيعة وتقاسم المعرفة ليستا مجرد التزام تجاه الأجيال القادمة، بل أيضاً وسيلة فعّالة لبناء الحوار بين الأمم.
الترويج للإنجازات العلمية البولندية في لبنان
يشمل التعاون العلمي بين بولندا ولبنان ليس فقط الأبحاث والمشاريع الأكاديمية، بل أيضاً نشر الإنجازات البولندية والشخصيات التي أسهمت في تطور العلم العالمي. ويعمل السلك الدبلوماسي البولندي على تعريف الشباب اللبناني بأبرز العلماء البولنديين، محفزاً إياهم على الاكتشاف والابتكار. ومن أمثلة هذه المبادرات الحدث الذي نُظّم في أيار 2025 في مدرسة SSCC Sioufi الثانوية في بيروت، والمخصّص لماريا سكوودوفسكا-كوري، والذي أقامته سفارة جمهورية بولندا بالتعاون مع متحف كوري في باريس. ولا تعمل هذه المبادرات على نشر العلوم فحسب، بل تساهم أيضاً في بناء صورة إيجابية لبولندا بوصفها بلداً للمكتشفين والباحثين والمبتكرين.
الخاتمة
تتمتع العلاقات العلمية بين بولندا ولبنان بتاريخ طويل ومتواصل يعكس الطبيعة الأوسع للروابط التي تجمع بين الشعبين. وتعود بدايات هذه العلاقات إلى القرن التاسع عشر، حين أسهم اليسوعيون البولنديون، وعلى رأسهم الأب ماكسيميليان ريوّو، في تطوير التعليم العالي في لبنان عبر تأسيس الكلّية الآسيوية في بيروت، التي أصبحت لاحقاً جامعة القديس يوسف. وهناك وُلدت تقاليد التعاون القائمة على الثقة المتبادلة والقيم المشتركة واحترام المعرفة.
وفي العقود التالية اتخذ هذا التعاون أشكالاً متعددة، من الأبحاث الأثرية وأعمال الترميم إلى المشاريع التعليمية والبيئية والاجتماعية. وقد ترك العلماء والمرمّمون البولنديون أثراً دائماً في علم الآثار اللبناني وحماية التراث الثقافي، بينما منحت المبادرات الحديثة في إطار برنامج المساعدات البولندية أو الوكالة الوطنية للتبادل الأكاديمي بُعداً معاصراً لهذه الشراكة. واليوم تشكل الاتصالات الأكاديمية وتبادل الطلاب والبحوث المشتركة والمبادرات البيئية شبكة غنية من التعاون، حيث تصبح المعرفة جسراً بين المجتمعين. إن الحضور البولندي في لبنان، من المشاريع التعليمية إلى حماية البيئة، هو تعبير عن استراتيجية ثابتة لبناء علاقات قائمة على العلم والثقافة والعمل المشترك.
وفي هذا الحوار المتعدد المسارات تؤدي المعرفة دور الرابط الذي يجمع بين التقاليد والحداثة، ويخلق مساحة للتفاهم المتبادل والإلهام. وبفضل جهود المؤسسات والباحثين والدبلوماسيين من كلا البلدين تبقى العلاقات البولندية-اللبنانية حيّة ودينامية، وتشكل مثالاً على كيفية قدرة التعاون الفكري على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.