Bez tytułu

بولندا ولبنان – تاريخ من الصداقة والحوار الثقافي

ترتبط بولندا ولبنان بتاريخ غني ومفاجئ من التواصل. وعلى مدى القرون، توثقت الروابط الروحية والفنية والاجتماعية، مُشكّلةً صورة ملهمة للتداخل المتبادل بين الثقافات. من الحجاج في العصور الوسطى، مروراً بالشعراء الرومانسيين، والمبشرين، واللاجئين الفارين من الحروب، وصولاً إلى الجالية البولندية المعاصرة في لبنان، تتكوّن هذه السيرة من حكاية عن الضيافة والقيم المشتركة وصداقة شعبين.

اللقاءات التاريخية: من الحجاج إلى الرومانسيين

تعود أولى الإشارات إلى وجود البولنديين في لبنان إلى زمن الحملات الصليبية. وعلى الرغم من أن الفرسان البولنديين لم يشاركوا بكثافة في الحروب الصليبية، نعلم أنّ كبار النبلاء والحجاج البولنديين وصلوا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر إلى الأراضي اللبنانية في طريقهم إلى الأرض المقدسة. ومن بين الحجاج الذين تركوا ملاحظات ثمينة عن رحلته عبر لبنان كان الأمير نيكولا كريشتوف رادجيويّ «سيوروتكا»، الذي قام برحلته إلى الأرض المقدسة بين عامي 1582 و1584، ودوّن خلالها مشاهداته عن طرابلس وغابات الأرز والقمم اللبنانية المغطاة بالثلوج.

أما الفصل المهم التالي في العلاقات المتبادلة القائمة على الثقافة، فكان رحلة يوليـوش سـوافـاتسكي. ففي عام 1837 زار الشاعر البولندي الكبير بيروت وطرابلس ودير القديس أنطونيوس الماروني في غزير. وهناك، «في بلد الأرز»، وضع الشاعر المسودّة الأولى من ملحمته أنهيلي، إحدى روائع الرومانسية البولندية. وفي رسائله إلى والدته، لم يُخفِ سـوافـاتسكي إعجابه بلبنان، وكتب عن مناظره الخلابة وأجوائه الروحية. وبعد سنوات سجّل في يومياته: «أودّ أن أجد نفسي مرة أخرى في لبنان». وقد شكّل هذا المقام في الدير اللبناني نقطة تحوّل في حياة الشاعر الفنية والإنسانية. ففي غزير عاش سـوافـاتسكي تجربة روحية عميقة، وبفضل لقائه بأحد اليسوعيين البولنديين، أجرى اعترافاً دام ليلة كاملة (في ليلة سبت النور عام 1837) وتصالح مع الله. وقد تركت هذه التجربة الصوفية في لبنان أثراً عميقاً في أعماله وجعلتها جسراً بين الثقافات.

أما اليسوعي الذي أثّر في مسيرة سـوافـاتسكي فهو الأب ماكسيميليان ستانيسواف ريـوّو، اليسوعي البولندي، الرحّالة والمبعوث البابوي. ولد الأب ريـوّو عام 1802 في أطراف الكومنولث البولندي، وجاب الشرق الأوسط وتعمّق في اللغة العربية وعاداتها، لذلك كلفه الفاتيكان عام 1836 بمهمة التواصل مع الكنائس الشرقية وتأسيس مدرسة في الشرق. وبفضل جهوده تأسس في بيروت عام 1839 الكلية الآسيوية (Collegium Asiaticum) التي أدّت دوراً رائداً في التعليم العالي في الشرق الأوسط. وفي عام 1875 تحولت الكلية إلى جامعة القديس يوسف (Université Saint-Joseph, USJ) التي تُعد اليوم واحدة من أقدم وأعرق المؤسسات التعليمية في المنطقة. ومن اللافت أن الجامعة لا تزال تذكر مؤسسها البولندي: ففي الذكرى المئوية لوفاته، عام 1948، كُشف عن لوحة تذكارية في مبنى الجامعة تكريماً لهذا المبشر البارز.

كما قدّم الأب ريـوّو خدمة مهمة للمجتمع المحلي، إذ أهدى عام 1839 إلى كنيسة سيّدة الخلاص في بكفيا أيقونة للعذراء مريم رسمها فنان إيطالي بناء على طلبه، ولا تزال معلّقة في الكنيسة حتى اليوم، شاهدة على التداخل الثقافي الحي في لبنان.

البولنديون في الخدمة الروحية والاجتماعية للبنان

إن العلاقات الثقافية بين بولندا ولبنان ليست مجرد قصص فردية لشعراء أو رجال دين، بل تشمل أيضاً انخراطاً أوسع للبولنديين في حياة بلد الأرز. ففي القرن التاسع عشر، وبعد سقوط الانتفاضات الوطنية في بولندا، بحث العديد من الوطنيين البولنديين عن ملجأ وفرصة لمواصلة النضال من أجل الحرية إلى جانب حلفائهم في الدولة العثمانية. وقد رحّبت تركيا بانضمام الضباط البولنديين ذوي الخبرة إلى جيشها، بل إنّ بعضهم، مثل الجنرال يوزِف بيم، اعتنق الإسلام ليتمكن من الخدمة في جيش السلطان.

وفي هذا السياق، تُعد مهمة ميخاو تشايكوفسكي، المعروف باسم صادق باشا، من أكثر الأحداث دلالة. فقد تولّى هذا المهاجر البولندي في خدمة السلطان قيادة الوحدات التي أُرسلت إلى لبنان عام 1860 لحماية المسيحيين هناك، ولا سيما الموارنة، من الاضطهاد خلال المواجهات الدامية مع الدروز. وفي السنوات التالية، وصلت إلى لبنان تشكيلات إضافية من الوحدات البولندية المؤلفة من جنود مسيحيين. وفي عام 1865 شُكّل حتى فوج كامل من سلاح الفرسان، كان معظمه من البولنديين، وبفضل ما حققوه من إنجازات ضُمّ هذا الفوج إلى الحرس السلطاني وأُرسل للخدمة في لبنان، حيث بقي هناك أربعةً وعشرين عاماً. وكان جميع ضباط هذه الوحدات من البولنديين، وكانت زيّاتهم وراياتهم تحمل رموزاً تشير إلى الألوان البولندية. وقد أشرف البولنديون على حماية السكان المسيحيين في لبنان، الأمر الذي أتاح لهم استعادة نشاطهم التجاري على سواحل البحر المتوسط بشكل متزايد.

وبهذه المناسبة، يجدر ذكر ابن ميخاو تشايكوفسكي، فلاديسواف تشايكوفسكي، الذي تولّى منصب حاكم لبنان تحت الحكم العثماني بين عامي 1902 و1907، وحمل حينها لقب مظفّر باشا. وعلى الرغم من أن فترة حكمه لم تشهد إصلاحات كبيرة، فإن مجرد إسناد هذا المنصب الرفيع إلى مهاجر بولندي يعبّر عن الثقة الكبيرة التي حظي بها البولنديون في المنطقة.

المصائر الحربية: اللاجئون البولنديون في كرم الضيافة اللبنانية (1943–1950)

يُعدّ أحد أكثر الفصول تأثيراً في العلاقات البولندية اللبنانية قصةُ اللاجئين البولنديين خلال الحرب العالمية الثانية. فبعد توقيع اتفاقية سيكورسكي–مايسكي، سار آلاف البولنديين، وبينهم نساء وأطفال، جنوباً بحثاً عن ملاذ إلى جانب الحلفاء. وفي الفترة بين 1943 و1946 وصل نحو ستة آلاف بولندي إلى لبنان عبر فارس، بعد إجلائهم من الاتحاد السوفييتي. وقد اعتبرتهم الحكومة اللبنانية، رغم ما كانت تواجهه من صعوبات، حلفاء رسميين ووافقت على أن تتولى البعثة الدبلوماسية البولندية رعايتهم. وهكذا بدأ فصل مميز من الوجود البولندي في لبنان، وكان للحياة الثقافية دور بارز فيه.

في البداية، أُسكن البولنديون في مخيم انتقالـي في بيروت، لكن سرعان ما نُقل الكثير منهم إلى بلدات جبلية مضيافة، ما زالت أسماؤها تثير الحنين لدى العائلات البولندية حتى اليوم. وفي تلك الأماكن تأسست مدارس بولندية بلغ عددها خمسة عشر مؤسسة تعليمية بمستويات مختلفة، كما افتُتحت مستشفيات ودور للأيتام، وأُنشئ في غزير كنيسة وكنيسة صغيرة بولنديتان. وفي جوار التجمعات السكنية البولندية كانت تعمل مكتبات (إحداها ضمت نحو 500 كتاب) إضافة إلى بيوت ثقافية تُنظم فيها العروض والمحاضرات والحفلات الموسيقية. ومنذ نوفمبر 1941 بدأت إذاعة «ليفانت» البيروتية ببث برامج باللغة البولندية موجّهة إلى القوات البولندية في الشرق الأوسط، وبحلول فبراير 1942 صارت البرامج تُبث مرتين يومياً. كما افتتحت مصحات بولندية في بلدتي بحمدون وبحَنّس، حيث استعاد الجنود والمدنيون صحتهم في أحضان الطبيعة اللبنانية الودودة.

وقد أتاحت الضيافة اللبنانية للاجئين البولنديين أن يعيشوا حياة طبيعية نسبياً. فالأطفال واليافعون واصلوا دراستهم (في عام 1947 وحده التحق 1286 تلميذاً بالمدارس البولندية، وعددها الإجمالي خمسة عشر مدرسة في مختلف أنحاء البلاد). أما الطلاب الأكبر سناً والجنود فتمكنوا من الالتحاق بالجامعات المحلية (بلغ عددهم بين 1942 و1950 نحو 400 شخص، حصل نحو نصفهم على شهادات جامعية).

وازدهرت أيضاً الأنشطة الفنية والدينية. فقد أسس الشباب البولندي فرق الكشافة والجوقات الموسيقية. ووصلت إلى بيروت كذلك المغنية والممثلة البولندية الشهيرة هانكا أوردونوڤنا التي نظّمت عروضاً فنية وأدارت داراً للأطفال البولنديين اليتامى (كانت قد وصلت مع دار الأيتام من أراضي الاتحاد السوفييتي عبر بومباي). لكن أوردونوڤنا أُصيبت بالسل وتوفيت في بيروت عام 1950 حيث دُفنت. ولم تُنقل رفاتها إلى بولندا إلا في عام 1990.

وقد قدّم العديد من البولنديين الذين وجدوا في لبنان ملاذاً خلال الحرب إسهامات مهمة لتنمية البلاد. وكان معظمهم من ذوي التعليم العالي، بخبرات مهنية اكتسبوها قبل الحرب في الجمهورية البولندية الثانية. ورغم عدم امتلاكهم للجنسية اللبنانية، شكّلوا مجتمعاً منظماً ومخلصاً لوطنهم، مندمجين في الوقت نفسه في حياة بلدهم الجديد.

فقد عمل المهندس إدوارد رومانِسكي محاضراً في الجامعة الأمريكية في بيروت، كما شغل منصب خبير حكومي في شؤون المياه ومشاريع الري، ومن بينها مشاريع على نهر الليطاني. أما كارول فليكر، المتخصص في مجال الدهانات والطلاءات، فقد ساهم في تطوير هذا القطاع الصناعي في لبنان. وترك المعماري الحداثي كارول شاير بصمته في تاريخ بيروت من خلال تصميمه لعدد من المباني الحديثة، منها فندق كارلتون ومبنى دار الصياد. كما تعاون الدكتور ستانيسواف زارمبا مع المراكز العلمية اللبنانية ونشر أبحاثاً في مجال الرياضيات.

غادر معظم اللاجئين البولنديين البالغ عددهم نحو ستة آلاف شخص لبنان بين عامي 1950 و1951، متوجهين إلى أوروبا الغربية أو الأميركتين. وبقي نحو مئتي بولندي في لبنان بشكل دائم، أسسوا عائلات واندمجوا في الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية للبلاد. وقد أصبحت مساهماتهم جزءاً راسخاً من رمز الصداقة البولندية اللبنانية التي ما زالت حية حتى اليوم.

الجالية البولندية المعاصرة والمبادرات المشتركة

بعد موجات الهجرة خلال الحرب، بقيت في لبنان جالية بولندية صغيرة لكنها نشيطة. فبعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1991، تأسس «النادي البولندي»، الذي تحول بعد عام إلى «جمعية الجالية البولندية في لبنان»، وهي تضم عشرات العائلات البولندية-اللبنانية إلى جانب رجال دين ومهنيين. وتُعنى الجمعية بالحفاظ على اللغة والتقاليد والذاكرة الوطنية، كما تعمل على نشر الثقافة البولندية بين اللبنانيين.

وفي عام 1992 تأسست «مدرسة الثقافة واللغة البولندية» في بيروت، حيث حصل أطفال العائلات المختلطة على فرصة لتعلم اللغة البولندية والتعرف على تاريخ البلاد. وفي عام 1997 صدر العدد الأول من مجلة «الأرز البولندي» الشهرية، التي وثّقت حياة الجالية وقدمت للقارئ اللبناني صورة أوضح عن بولندا.

وتنظم سفارة جمهورية بولندا في بيروت أيام الثقافة البولندية، وحفلات موسيقى شوبان، ومعارض وعروضاً سينمائية، بينما تقام في بولندا أسابيع مخصصة للثقافة اللبنانية. وتحتفل الجالية بالأعياد الوطنية والدينية، فتجمع البولنديين واللبنانيين في مناسبات مشتركة، من قداس الثالث من مايو إلى اللقاءات الاحتفالية في ليلة الميلاد.

الخلاصة

تُظهرُ قصة العلاقات البولندية اللبنانية أن الروابط بين الشعبين ذات طابع راسخ وطبيعي، لأنها تنبع من خبرات التاريخ المشترك وروح الود والتعاون المتبادل. فمنذ زمن الحجاج والشعراء، مروراً بالمبشرين واللاجئين في زمن الحرب والعلماء، وصولاً إلى الجالية البولندية المعاصرة والمبادرات الثقافية، ظلّت هذه العلاقات قائمة على الحوار والاحترام المتبادل دون انقطاع. وما زال هذا التعاون مستمراً حتى اليوم، رغم قلة عدد البولنديين في لبنان، لأنه يقوم على استمرارية يصنعها الناس جيلاً بعد جيل، لا على التصريحات الرسمية. إن التعاون الممتد بين بولندا ولبنان، الذي جمعتهما قرون من التراث الثقافي والإلهام المتبادل، يبقى واحداً من أكثر الأمثلة ثباتاً على الصداقة العابرة للحدود.