
تمتد جذور العلاقات البولندية المصرية أعمق مما قد يبدو للوهلة الأولى. فقبل توقيع أولى الاتفاقيات الدبلوماسية، وقبل زيارات الوفود الرسمية والتبادل الأكاديمي المعاصر، كانت الثقافة هي الرابط بين الشعبين: لغة الفن والعلم والإعجاب المشترك بتراث الحضارة على ضفاف النيل. من رحلات يuliusz Słowacki الرومانسية، مروراً بسحر الشرق في الرسم والأدب البولندي، وصولاً إلى البعثات العلمية لكازيميرز ميخالوفسكي ونشاط المؤسسات الحديثة، احتلت مصر مكانة خاصة في المخيلة البولندية.
من خلال الثقافة تحديداً تمكن البولنديون والمصريون من التعارف والفهم المتبادل والإلهام. فقد أثبتت الفنون والعلوم والتعليم أنها أكثر دواماً من الحدود والأيديولوجيات والأنظمة السياسية. اللقاء بين أوروبا ومصر، وهما عالمان مختلفان لكن متكاملان، أثمر حواراً حل فيه الانبهار بالتاريخ والروحانية والفن محل الانقسامات السياسية. وعلى هذا الأساس قام جسر من التفاهم صمد أمام العصور والأنظمة.
البدايات الرومانسية – سوافاسكي على ضفاف النيل
قبل أن يصل الفنانون والعلماء في القرن التاسع عشر إلى ضفاف النيل، كان قد سبقتهم مجموعات من البولنديين الذين اتسم حضورهم بطابع ديني وعسكري وإنساني. كان المبشرون والحجاج من أوائل البولنديين الذين وصلوا إلى مصر، وقد تركوا وراءهم روايات عن رحلاتهم إلى الأماكن المقدسة، فاتحين بذلك الصفحات الأولى من التاريخ الثقافي المشترك بين بولندا ومصر. ومن بين المجموعات البارزة الأخرى البولنديون الذين جاؤوا إلى مصر مع جيش نابليون. ويبرز بينهم سالومون هوروفيتش، وهو يهودي يُرجّح أنه من لوبلين، ومثقف خدم في جيش نابليون، من بينها كمترجم. كما كان يعمل على تنظيم المجموعات المخطوطة ونسخ النصوص العربية والعبرية، وتعاون مع العلماء الذين أعدّوا لاحقاً العمل الشهير Description de l’Égypte. يمثّل هوروفيتش رمزياً حضور البولنديين في الحياة الفكرية خلال الحقبة النابليونية، حيث كانوا رجال معرفة وكلمة، لا سيف فقط. وتشكل أنشطته أول مثال على مساهمة بولندي في توثيق ونشر التراث المصري في أوروبا.
في الفترة نفسها ترك جنود مثل يوزيف شوملانسكي مذكرات وصفوا فيها القاهرة والإسكندرية والأهرامات. وفي رواياتهم تبدو مصر بلداً مدهشاً ومختلفاً، لكنه يثير الاحترام والإعجاب. ومع كتابات الحجاج والمبشرين شكّلوا أول دائرة من الشهادات البولندية عن مصر، موثّقين ليس فقط البلد، بل أيضاً لحظة اللقاء بين عالمين ثقافيين
وعلى هذا الأساس ظهر في منتصف القرن التاسع عشر نوع جديد من الحضور البولندي في مصر، ترك أثراً كبيراً في الأدب البولندي، وهو الرحلة الرومانسية التي جمعت بين فضول الباحث وتأملات الفنان الروحية. كان يuliusz Słowacki، الذي زار الإسكندرية والقاهرة في الأعوام 1836–1837، من أوائل المبدعين البولنديين الذين رأوا في مصر أكثر من مجرد مقصد استشراقي، بل فضاءً للتفكير الفلسفي حول الزمن والذاكرة واستمرار الأمم. وفي قصيدته الأهرامات وصف لحظة صعوده إلى قمة هرم خوفو، وهي تجربة أصبحت بالنسبة له رمزاً للارتقاء الروحي. وفي نظره إلى الصحراء والنيل رأى ليس فقط جمال الطبيعة، بل أيضاً استعارة لخلود الإنسان ولقدرة الأمة على البقاء. لقد كانت مصر بالنسبة لسوافاسكي مكاناً تتحول فيه التاريخ إلى أبدية و الحجر إلى صلاة.
الفنانون والعلماء على ضفاف النيل
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أصبح مصر بالنسبة للبولنديين ليست فقط وجهة للرحلات الروحية، بل أيضاً مختبراً علمياً ومصدراً للإلهام الفني. فقد وصل إلى ضفاف النيل أطباء وعلماء نبات ورسامون ومصورون وكُتّاب، لم يكونوا يسعون إلى المشاهدة فحسب، بل إلى الفهم، أي إلى دراسة تاريخ هذا البلد وطبيعته وثقافته وإدخاله في الدورة الأوروبية للمعرفة. ومن بين أبرز هؤلاء:
إغناسِي زاغييل (1826–1891)، الطبيب والرحالة القادم من منطقة فيلنو والذي درس في كييف، يُعد من رواد علم المصريات البولندي. أمضى عدة سنوات في مصر ووصل حتى النوبة وإثيوبيا. وكان كتابه الواسع تاريخ مصر القديمة (1880) من أوائل المحاولات لنشر المعرفة حول الفراعنة باللغة البولندية. وقد جمع فيه بين عمق المعرفة وشغف الرومنسي المكتشف، وظل لسنوات طويلة مصدراً أساسياً لمعارف المصريات لدى القارئ البولندي.
أما ليون تسيينكوفسكي (1822–1887)، عالم النبات والأحياء الدقيقة، فقد دُعي من قبل السلطات المصرية للمشاركة في أبحاث حول نباتات دلتا النيل. وفي تقاريره وصف الغطاء النباتي والظروف المناخية والمشكلات المرتبطة بإدارة المياه في مصر.
وفي السياق ذاته برز وووكاش دوبجانسكي (1909–1864)، المصور والرسام، كأحد أوائل البولنديين الذين حاولوا التقاط ملامح مصر عبر عدسة الكاميرا. وتُعد صوره للنيل والجيزة وطيبة اليوم مصدراً أيقونوغرافياً لا يُقدّر بثمن، ودليلاً على انتقال سحر الشرق من الأدب إلى وسيط جديد هو التصوير الفوتوغرافي.
وعلى الأرضية نفسها تطورت أعمال الرسامين الذين منحوا صورة مصر بُعداً فنياً وروحياً. فقد قام فرنسيسيك تيبا (1828–1889)، خريج أكاديمية كراكوف، برحلة إلى مصر وسوريا في ستينيات القرن التاسع عشر. وتمتزج في لوحاته المائية من الجيزة والقاهرة ووادي النيل — المصوّرة للأهرامات والمساجد والحياة اليومية للمصريين — الواقعية بإحساس شعري، وكانت من أوائل الأعمال ذات الطابع الشرقي في الرسم البولندي. لم تكن مصر بالنسبة لتيبا خلفية استشراقية، بل عالماً حيّاً تلتقي فيه التاريخ بالحاضر.
وبروح مشابهة عمل إيزيدور يابوانسكي (1835–1905)، صديق يان ماتيكو وكتّاب سيرته، الذي رسم مشاهد من القاهرة والصحراء، وكذلك ستانيسواف خليبوسكي (1835–1884)، الرسام البلاطي للسلطان عبد العزيز في القسطنطينية، الذي زار مصر مرات عديدة.
ومع مطلع القرن قدّم إدوارد أوكون (1872–1945) — الرسام الحداثي — إضافة جديدة حين جاء إلى النيل ليُعدّ الرسوم التوضيحية لرواية فرعون لبوليسواف بروس. لم يكن هذا المشروع مجرد تكليف فني، بل محاولة لإعادة إحياء روح مصر القديمة من منظور فكري بولندي. فقد ربطت رواية فرعون، وهي عمل عن السلطة والمسؤولية وقوة الأمة الروحية، بين التأمل في مصر وطرح أسئلة حول مصير بولندا. وقد أظهر أوكون وبروس أن الحوار مع مصر ليس مغامرة استشراقية، بل نقاش حول آليات التاريخ الكونية. ورغم أن الطبعة اليوبيلية للرواية لم تُنشر، فقد بقيت من الرحلة رسومات عديدة لمشاهد مصرية إلى جانب لوحة الإلهة حتحور المرسومة نحو عام 1916.
سينكفيتش وروح الرحلة
حين سافر هنريك سينكفيتش إلى مصر عام 1890، كان عالم ضفاف النيل قد أصبح معروفاً جيداً من خلال وصف الشعراء والرحالة والعلماء الذين سبقوه. غير أنّ رسائل من أفريقيا التي نشرها بعد عودته فتحت فصلاً جديداً في الأدب الرحلي البولندي. فقد جمعت بين الملاحظة الدقيقة والأسلوب الأدبي الواسع، وأصبحت سجلاً للقاء ثلاث حضارات: الأوروبية والعربية والأفريقية. لم يكن مصر بالنسبة لسينكفيتش مجرد محطة في طريقه إلى شرق أفريقيا، بل فضاءً للتأمل في تداخل الماضي مع الحداثة. ففي وصفه للقاهرة والجيزة وبورسعيد رأى عظمة الأهرامات وحيوية الحياة المعاصرة في آن واحد. شدّته طاقة المدينة وانفتاحها ومزيج لغاتها ودياناتها، إلى جانب استمرارية تقاليدها العميقة. وعلى خلاف الرومانسيين لم يبحث سينكفيتش في مصر عن إشارات غامضة، بل نظر إليها بعيني مراسل يفهم أنّ الروحانية والتحديث قادران على التعايش.
ومن هذه الرحلة وُلد لاحقاً أحد أشهر أعماله، رواية في الصحراء والبراري (1911). تبدأ أحداث الكتاب في مصر، في زمن بناء قناة السويس، وتمثّل تسجيلاً أدبياً لافتتان المؤلف بالعالمين العربي والأفريقي. وقد أدخلت الرواية إلى الثقافة البولندية صورة غنية لمصر وقدّمتها بوصفها مكاناً يلتقي فيه ثلاثة قارات. فمصر فيها بوابة إلى أفريقيا، لكنها أيضاً مجاز لعالم يتعلم فيه الإنسان التواضع أمام الطبيعة والثقافات المختلفة. وبفضل رسائل من أفريقيا و في الصحراء والبراري رأى القارئ البولندي مصر لا كمنظر استشراقي، بل ككائن اجتماعي حي تتداخل فيه التاريخ والدين والحياة اليومية في نسيج واحد متماسك.
الموسيقى والمسرح والهندسة
منذ منتصف القرن التاسع عشر لم يجذب مصر الرحالة والفنانين فقط، بل أيضاً الموسيقيين والمهندسين المعماريين والإنشائيين الذين أدخلوا إلى الحياة الثقافية والتقنية في البلاد عناصر من الحداثة الأوروبية. فقد كانت الإسكندرية والقاهرة آنذاك عامرتين بالمسارح والأوركسترات والجمعيات الموسيقية، التي أصبحت فضاءً طبيعياً للقاء الثقافات. وفي هذه البيئات بدأ يظهر البولنديون، المعروفون بمهارتهم الفنية وانضباطهم وتعليمهم الأوروبي.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصل إلى مصر أنطوني كونتسكي، عازف البيانو والملحن الشهير، تلميذ جون فيلد والمعاصر لشوبان. وخلال رحلاته قدّم حفلات موسيقية في القاهرة مع أخيه أبوليناري، مقدّماً للجمهور روائع الريبرتوار الأوروبي للبيانو. ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهر هناك فنانون بولنديون آخرون – مغنون وعازفون مرتبطون بدور الأوبرا الأوروبية – من بينهم صوت الباس البارز فواديسواف ميلر، وقائدة الأوركسترا يادفيغا روزفادوفسكا التي تولّت قيادة أوبرا “إيزولده” في دار الأوبرا بالقاهرة.
وفي عام 1879 أقام في القاهرة لعدة أشهر عازف الكمان فواديسواف غورسكي، وقد رافقته في رحلته زوجته هيلينا التي تزوجت لاحقاً من إغناسِي بادرِفسكي. كما قدّم حفلات في مصر عازف الكمان الشهير باويل كوخانسكي الذي ظهر على ضفاف النيل نحو عام 1907.
كما نعرف اليوم عن عدد كبير من الموسيقيين من أصول يهودية ينحدرون من أراضي بولندا، مثل شوليم بيرغرون من لفيف، وجايكا فرايمان من زولكفا، وهيرش ليش من تشورتكوف، وأدولف روزنكرانتس من شنياتين. وفي مقاهي القاهرة غنّت ميرزه هوس برونوواسّر من هورودينكا وبيتي مِت من لفيف، بينما عزفت آنا شتاين ولاي شييلينغ من ستانيسوافوف في أوركسترا فايغِس.
الحرب والهجرة والتضامن
خلال الحرب العالمية الثانية أصبح مصر واحداً من أهم مراكز الهجرة البولندية زمن الحرب، وملاذاً لآلاف البولنديين الذين تم إجلاؤهم من الاتحاد السوفييتي عام 1942 مع جيش الجنرال فواديسواف أندرس. كانت الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية بالنسبة لكثير منهم أول أماكن استطاعوا فيها استعادة الشعور بالأمان بعد التجارب الدرامية في سيبيريا وفارس. وقد تم هناك إنشاء ليس فقط القيادة العسكرية، بل أيضاً مؤسسات اجتماعية وثقافية.
شهدت هذه المدن لقاءات وفعاليات، وبُثّت منها برامج إذاعية، وصدر فيها عدد من الصحف والكتب باللغة البولندية. ومن أبرز المطبوعات البولندية التي نُشرت على ضفاف النيل: “يومية جندي الجيش البولندي في الشرق”، “الغوس كارباسكي”، “ناسزه دروغي” و “بارادا”. كما طُبعت في مصر مجلات موجهة للشباب مثل “يوناك”، “كادت” و**”أوخوتنيتشكا”**، وكانت تُوزّع أيضاً على أراضي فلسطين.
الآثار والدبلوماسية الثقافية
بعد عام 1956 دخل التعاون بين بولندا ومصر مرحلة جديدة. فقد جعلت الاتفاقية الثقافية الموقّعة في القاهرة عام 1957 مصر أول بلد عربي تُقيم معه بولندا الشعبية علاقات بهذا الاتساع. وأصبح رمز هذه المرحلة نشاط البروفيسور كازيميج ميخاوفسكي والبعثة الأثرية البولندية في فرادس، التي اكتشفت جداريات مسيحية فريدة نُقلت إلى المتحف الوطني في وارسو وإلى متحف الخرطوم.
وشمل التعاون كذلك تبادل العلماء، والحفلات الموسيقية، والمعارض، والمشاريع الفنية المشتركة. وفي عام 1960 أُقيم في القاهرة حفل شوبيني خُصص للنخب المصرية، وفي العقود التالية نشطت جمعيات الصداقة البولندية–العربية والبولندية–المصرية التي دعمت الروابط الفنية والعلمية والاجتماعية.
الجالية البولندية والأجيال الجديدة
بعد انتهاء الحرب بقيت في مصر تجمعات بولندية تضم عدة آلاف من الأشخاص، وخاصة تلك المرتبطة بالجيش. غير أنه مع اتضاح موقع بولندا في دائرة النفوذ الجديدة، بدأت الحياة الاجتماعية القائمة على البنى العسكرية السابقة تتفكك تدريجياً. وقد أُنشئت في القاهرة بعثة إعادة التوطين التي عاد من خلالها إلى الوطن نحو 700 شخص. وبقي في مصر عدد محدود من ذوي الأصول البولندية، من بينهم بولنديات تزوجن من مصريين واستقررن على ضفاف النيل، إضافة إلى جالية صغيرة من اليهود البولنديين المنحدرين من الهجرة السابقة للحرب. ولذلك أُسّس عام 1946 اتحاد البولنديين في مصر برئاسة يوليان سوسكي.
أما الجالية الحالية فهي تتكوّن أساساً من بولنديات وبولنديين ارتبطوا بزيجات مختلطة مع مواطنين مصريين، وكذلك من أبناء الموجات السابقة من المهاجرين. وقد وصلت أكبر مجموعة من البولنديات في سبعينيات القرن العشرين للعمل في تدريس اللغة الإنجليزية والمواد العلمية. وتوجد أكبر التجمعات البولندية في القاهرة والإسكندرية، لكن يمكن لقاء البولنديين أيضاً في الإسماعيلية وبني سويف والمنيا وشبين الكوم. وفي عام 1995 تأسس في مصر اتحاد العائلات البولندية–المصرية، وهي منظمة تعمل على تطوير التعليم ونشر اللغة البولندية، ودعم الأسر المختلطة، وتنظيم الفعاليات الثقافية في سفارة بولندا بالقاهرة. وقد أصبحت الاحتفالات المشتركة بالأعياد الوطنية والحفلات وورشات العمل والأنشطة الخيرية جزءاً مهماً من التقويم الاجتماعي البولندي–المصري.الثقافة – فضاءٌ للتفاهم
على مدى أكثر من مئتي عام كانت الثقافة مجالاً للقاء لا للمنافسة. فالشغف المشترك بالعصور القديمة، وحب العلم والفن، والاحترام المتبادل للإرث الروحي لكل من الشعبين، جعل العلاقات البولندية–المصرية ذات طابع استثنائي يجمع بين التقليد والحداثة، وبين الشعور والتأمل، وبين المعرفة والتعاطف.
كان مصر بالنسبة للبولنديين فضاءً للدهشة والإلهام، ومكاناً استطاعوا فيه أن يجدوا صدىً لتجاربهم التاريخية والروحية. وكانت بولندا بالنسبة للمصريين مثالاً لبلدٍ غني بالثقافة، يبحث بشجاعة عن الحوار والتعاون. ومن هذين المنظورين نشأت علاقة قائمة على ال