* * *
* * *
خلال الفترة قيد التحليل (سبتمبر–ديسمبر 2024)، تميز المشهد الإعلامي المصري بنشاط مكثف في مجالات الدعاية والمعلومات المضللة من جانب روسيا، مع وجود صيني أكثر خفية ولكنه متسق. هدفت هذه الأنشطة إلى التأثير على الرأي العام المصري، والنخب السياسية، وكذلك الجمهور الإقليمي والدولي.
كان الاتجاه الرئيسي للتأثير يتمثل في محاولة تقديم روسيا والصين كشريكين مستقرين يدعمان نظاماً عالمياً بديلاً ويكافحان هيمنة الغرب، مع التشكيك في مصداقية ونوايا الدول الغربية، بما في ذلك بولندا وحلف الناتو والولايات المتحدة. تظهر التحليلات أن مصر تمثل ساحة رئيسية لاختراق المعلومات من قبل هاتين القوتين بسبب موقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية ومكانتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تستخدم العمليات المعلوماتية التي تقوم بها روسيا والصين في مصر التوترات القائمة، والضغوط الاقتصادية والطاقة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على حرية الإعلام في البلاد، لبناء خطاب يصب في مصلحة بكين وموسكو، ويضر بصورة الغرب، بما في ذلك بولندا. تعمل الروايات الروسية بشكل هجومي على تقويض الثقة في دول الناتو والاتحاد الأوروبي، مقدمة إياها كقوى عدوانية تسعى إلى الهيمنة. في المقابل، تأتي الجهود الصينية بشكل أكثر خفية ولكنها تدعم هذا الخط من الحجة، مع الترويج أيضاً لبدائل اقتصادية ونظام عالمي متعدد الأقطاب. والنتيجة أن المجتمع المصري يتلقى صورة مشوهة للواقع الجيوسياسي، مما قد يؤثر على الخيارات الاستراتيجية طويلة المدى للقاهرة.
لمواجهة هذا التأثير، يجب على بولندا والدول الغربية العمل بنشاط في مجال الدبلوماسية العامة، وتعزيز الإعلام المستقل، ودعم التعددية المعلوماتية، والترويج لروايات إيجابية تستند إلى الحقائق بشأن التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي. بدون جهود منسقة، ستستمر الأنشطة المعلوماتية المضللة الروسية والصينية في إعاقة التعاون الفعّال مع مصر ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
اتجاهات وسرديات العمليات الروسية للتأثير
السرديات المناهضة للغرب وحلف الناتو:
تواصل روسيا الترويج لسرديات تصور حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة كجهات معتدية وقوى زعزعة استقرار ذات طموحات إمبريالية جديدة. تُبرز بولندا، كواحدة من الأعضاء الرئيسيين في حلف الناتو ودولة مجاورة لأوكرانيا، بشكل متكرر في الدعاية الروسية كمدبرة مزعومة أو مستفيدة من “خطة” تقسيم أوكرانيا. تعرض الدعاية الروسية عبر وسائل الإعلام الناطقة بالعربية في مصر، مثل وكالة سبوتنيك عربي، بولندا والدول الغربية كقوى تسعى لاحتلال أوكرانيا تحت غطاء “مهمة سلام“، مع محاولة تعزيز الاعتقاد بأن الغرب يمارس معايير مزدوجة لتحقيق أهداف إمبريالية مخفية.
تهدف هذه السرديات المناهضة للغرب والناتو إلى تقويض ثقة المجتمع المصري في الدول الغربية (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة)، وفي الهياكل مثل حلف الناتو، وكذلك في حلفائهم (بما في ذلك بولندا). تصور الدعاية الروسية الغرب كقوة عدوانية وإمبريالية تفرض إرادتها على الدول الأخرى. وفي هذا السياق، يتم تصوير الناتو على أنه ليس تحالفًا دفاعيًا بل أداة للهيمنة السياسية والعسكرية.
في السياق المصري، تستغل هذه السرديات حساسية المنطقة تجاه التدخلات الغربية (مثل الحرب في العراق وليبيا، أو دعم الغرب لإسرائيل) والوضع الاقتصادي والطاقوي الصعب في مصر. تصوغ روسيا سردًا يصور العالم على أنه مكان تقدم فيه روسيا والصين بديلًا للنظام الغربي الحالي “غير العادل” والمهيمن.
الاستفادة من المشاعر المناهضة لإسرائيل في معارضة الغرب:
نظرًا لأن القضية الفلسطينية ودور إسرائيل يحتلان مكانة بارزة في السرديات الشرق أوسطية، تعمل الدعاية الروسية والمصادر المؤيدة لها في المنطقة على ربط انتقاد الغرب بخطاب مناهض لإسرائيل. يتم تقديم الغرب كراعٍ لإسرائيل، مما يعزز في نظر العديد من المتلقين في مصر أو في العالم العربي عمومًا الصورة السلبية لحلف الناتو والولايات المتحدة.
بولندا ودول الجناح الشرقي للناتو كـ “أدوات” و“دمى” للغرب:
يتم تصوير حلف الناتو كمنظمة تتوسع عمدًا شرقًا، مما يشكل تهديدًا لأمن الدول الأخرى. تروج الدعاية الروسية لادعاءات حول خطط مزعومة لنشر قوات غربية في أوكرانيا تحت ستار “قوات حفظ السلام“، وهو ما يُفسر كاحتلال فعلي للبلاد. تُعرض دول مثل بولندا، رومانيا، ودول البلطيق كامتداد لسياسات الولايات المتحدة وحلف الناتو، دون استقلالية سياسية، بهدف إضعاف صورتها كجهات فاعلة مستقلة. يتم تكوين انطباع بأن هذه الدول تنفذ طموحات أمريكية، مثل الخطط المزعومة لتقسيم أوكرانيا، أو ضم الأراضي، أو عسكرة الحدود الشرقية.
شيطنة المساعدات الغربية لأوكرانيا:
تُقدم المساعدات العسكرية والمالية المقدمة لأوكرانيا على أنها خطوة لجذب البلاد إلى الهياكل الغربية بهدف إخضاعها لمصالح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. تتجاهل هذه السردية الأسباب الفعلية للدعم (مثل العدوان الروسي على أوكرانيا ورغبة الغرب في الدفاع عن السيادة الأوكرانية)، وبدلاً من ذلك تركز على مزاعم حول “استعمار” أوكرانيا أو استغلال مواردها.
استغلال معاداة السامية ونظريات المؤامرة:
روج دعاة الدعاية الروسية لسرديات كاذبة حول مزاعم هجرة جماعية لليهود إلى أوكرانيا عبر بولندا. الهدف من ذلك إثارة الشكوك والعداء داخل المجتمعات العربية، الحساسة تجاه القضايا المتعلقة بفلسطين وإسرائيل. تسعى روسيا من خلال ذلك إلى الجمع بين الخطاب المناهض لإسرائيل والخطاب المناهض للغرب، لتعزيز الصورة السلبية لبولندا في أعين المصريين، كمشارك مزعوم في أنشطة استعمارية أو تلاعبية.
خلق صورة زائفة لروسيا كـ “شريك مستقر وصديق“:
تحاول الدعاية الروسية باستمرار تقديم روسيا كبديل مستقر وصديق للغرب، متجنبة تسليط الضوء على تصرفاتها العدوانية، ومقدمة نفسها كداعم للنظام العالمي المتعدد الأقطاب وحامي السيادة الوطنية للدول.
بناء صورة روسيا كمدافع عن النظام العالمي متعدد الأقطاب:
تُبرز الرسائل الروسية التعاون مع مصر في إطار مجموعة “بريكس“، مع التركيز على الاستقلال عن الدولار والمؤسسات الغربية. قام الدبلوماسيون الروس ووسائل الإعلام الرسمية بتسليط الضوء على المشاريع البنية التحتية، مثل محطة الضبعة للطاقة النووية، كدليل على متانة الشراكة بين موسكو والقاهرة وفوائدها. كما تم الترويج لروايات عن جمع تبرعات لجنود روس يقاتلون في أوكرانيا، قيل إنها تأتي من العديد من الدول، بما في ذلك بولندا، في محاولة لإظهار أن روسيا تحظى بدعم دولي، حتى في الدول التي يُنظر إليها على أنها موالية للناتو. تعزز هذه الرسائل الانطباع بأن روسيا تحظى بتأييد شعبي عالمي على الرغم من الانتقادات الرسمية من الغرب.
الاتجاهات الرئيسية والسرديات في العمليات الإعلامية الصينية:
تعمل الصين بشكل أقل مواجهة مقارنة بروسيا، وتركز على الجوانب الاقتصادية، والبنية التحتية، والتكنولوجية. في الوقت نفسه، تدعم بكين بشكل غير مباشر الروايات الروسية المناهضة للغرب والناتو، لتعزيز صورة التعاون مع روسيا في معارضة الغرب.
المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (SCZone):
تروج الصين بشكل مكثف لاستثمارات الشركات الصينية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، مما يخلق بديلًا للاستثمارات الغربية ويقلل من اعتماد مصر على الغرب. تبرز وسائل الإعلام الصينية والقنوات المؤيدة لها في مصر قيمة المشاريع الجديدة والدور المتزايد للصين في تحديث الاقتصاد المصري. ورغم تجاهل روسيا والصين للسياقات الجيوسياسية السلبية، تسعى الصين إلى تقديم نفسها كشريك قادر على دعم مصر في التحول في قطاع الطاقة، من خلال مشاريع الطاقة الخضراء وتطوير التكنولوجيا الحديثة. تهدف هذه الجهود إلى خلق انطباع بأن الصين تقدم بديلًا حقيقيًا للحلول الغربية.
الدعم الصيني للسرديات الروسية:
تعزيز الرسائل حول التهديد المزعوم الذي تشكله البنية التحتية للناتو في بولندا:
أعادت الصين التأكيد على السرديات الروسية التي تصور قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا كتهديد استراتيجي. تم توزيع هذه الرسائل عبر الحسابات الصينية على منصات التواصل الاجتماعي الشائعة في العالم العربي، مما أوجد انطباعًا بالتوافق بين المصالح ورؤية التهديدات بين بكين وموسكو. ورغم أن الصين لا تعلن موقفًا صريحًا مؤيدًا لروسيا في الحرب الأوكرانية، فإنها من خلال دعمها غير المباشر لمعلومات مضللة حول نوايا الناتو والغرب العدائية تجاه المنطقة، تشير إلى قربها من موقف موسكو. يتيح ذلك للصين تقديم نفسها كعامل استقرار، مستعدة للعمل ضمن إطار “بريكس” لتعزيز نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يمنح الدول النامية والقوى الإقليمية (مثل مصر) دورًا أكبر.
* * *
مهمة عامة ممولة من وزارة الخارجية لجمهورية بولندا في إطار مسابقة “الدبلوماسية العامة 2024-2025: البعد الأوروبي ومكافحة التضليل الإعلامي.”
تعبر هذه المنشور فقط عن آراء المؤلف ولا يمكن أن تُعتبر تعبيراً عن الموقف الرسمي لوزارة الخارجية لجمهورية بولندا.