لماذا تشوّه روسيا صورة بولندا في العالم العربي؟ تحليل لفيلم دعائي بعنوان “صراعٌ منذ ألف عام”
التاريخ كسلاح للتأثير
لماذا تروي روسيا للعرب قصة “صراعٍ يمتد لألف عام” مع بولندا؟ ولماذا تُصوِّر بولندا على أنها عدو ومعتدٍ، رغم أنها لم تهاجم أوكرانيا، ولم تشعل الحرب في أوروبا؟
الفيلم الذي أنتجته قناة روسيا اليوم تحت عنوان “روسيا – بولندا: صراعٌ منذ ألف عام” ليس وثائقيًا عاديًا، بل هو أداة دعائية تهدف إلى إقناع المشاهد العربي بأن بولندا حليفة للغرب، وأنها منذ قرون تكره روسيا وثقافتها.
لكن، هل هذه الرواية صحيحة فعلًا؟
هل كان الروس والبولنديون جيرانًا وأعداءً طوال ألف عام؟
وهل يمكن الوثوق برؤيةٍ للتاريخ لا تترك مجالًا للحوار أو التعايش أو تعقيد الأحداث؟
أم أننا أمام حملةٍ إعلامية جديدة، تعتمد على أسلوب قديم بقدر قِدم التاريخ نفسه: رواية قصة الآخر بطريقة تخدم رؤيتك أنت للعالم؟
هذا المقال يُظهِر كيف تستخدم روسيا التاريخ كسلاحٍ معلوماتي في الفضاء العربي، وما هي الأساليب التي تعتمدها، وما هي المشاعر التي تسعى لإثارتها — والأهم من ذلك: لماذا تستهدف المتلقّي العربي تحديدًا؟
فالبروباغندا لا تعترف بالحدود، لكن إدراك أين تبدأ المغالطة هو الخطوة الأولى لحماية وعينا.
١. رواية زائفة عن “صراعٍ منذ ألف عام”
الفيلم ليس سردًا عن الماضي، بل هو رؤية للمستقبل كما تتمنّى روسيا أن يراه الآخرون.
حتى العنوان وحده — “صراعٌ منذ ألف عام” — يحمل رسالة خفية: أن الحرب قدر محتوم، وأن العداء بين البولنديين والروس قديم قدم الزمن، وأن السلام ليس إلا استراحة بين جولاتٍ من الصراع.
لكن ذلك غير صحيح. فروسيا بشكلها الحالي ليست موجودة منذ ألف عام.
“كييف روس” — التي يصوّرها الفيلم على أنها مهد روسيا — لم تكن موسكو.
قول ذلك يشبه تمامًا الادعاء بأن إيران اليوم هي نفسها بلاد ما بين النهرين.
من منظورٍ تاريخي، هذا خطأ جوهري.
فموسكو ككيان سياسي مستقل لم تظهر إلا في القرن الرابع عشر، أما العلاقات المنتظمة — سواء السلمية أو العدائية — بينها وبين بولندا، فقد بدأت في وقتٍ لاحق بعد ذلك.
فلماذا إذًا يروي الفيلم الروسي قصةً لم تحدث كما يعرضها؟
لأن الهدف ليس سرد التاريخ، بل إثارة المشاعر.
الهدف هو إقناع المشاهد بأن بولندا عدوٌّ أبدي — كانت كذلك وستبقى كذلك.
أن الصراع معها ليس خيارًا سياسيًا، بل قدر لا مفرّ منه.
يريدون للمشاهد أن يتوقف عن التفكير بإمكانية التغيير، وأن يقتنع بأن بولندا — بصفتها عضوًا في الناتو — لا تتحرّك بدافع الحكمة أو المصالح، بل بدافع الحقد والكراهية.
بالنسبة للمشاهد العربي، فهذه لغة مألوفة.
فالقادة الاستعماريون قالوا الشيء نفسه:
أن الشرق والغرب عدوان تقليديان منذ الأزل.
وأن الحروب الدينية بدأت مع الحملات الصليبية ولم تنتهِ.
وأن البعض يسعى للحرية، بينما الآخرون يريدون الهيمنة والسيطرة.
الخطاب هو نفسه — لكن الأبطال تغيّروا.
٢. كيف تعمل السردية الروسية؟
الدعاية الروسية في هذا الفيلم تعمل كأنها قصة خرافية محبوكة بإتقان.
فيها أبطال طيبون وأشرار.
فيها ضحية — وهي روسيا، ومعتدٍ — وهي بولندا.
فيها أطفال يدافعون عن التماثيل، ومعلمون يكذبون، وجيران خونة، وتحالفات إجرامية.
كل هذه العناصر تؤدي إلى رسالة واحدة:
روسيا تقاتل من أجل البقاء، وبولندا ليست سوى أداة في يد الغرب.
يستخدم الفيلم تقنيات تأثير معروفة جيدًا:
- التضليل التاريخي – خلط الحقائق بنصف الحقائق، مثل تصوير بولندا على أنها حليفة للنازيين، وتجاهل فترات التعاون السابقة.
• اللعب على مشاعر الخوف والذنب – الإيحاء بأن بولندا تسعى لتدمير كل ما هو روسي، وأن الغرب يساعدها على ذلك.
• توظيف الدين والثقافة لأهداف سياسية – الادعاء بأن بولندا تكره الأرثوذكسية، وأن روسيا هي المدافع عنها.
• الضحايا والأطفال – استخدام الرموز الأخلاقية لإثارة التعاطف مع روسيا.
وبهذه الطريقة، لا يحتاج الفيلم إلى إقناع المشاهد بالحقائق — فهو يقنعه بالعاطفة.
٣. لماذا توجّه روسيا هذا الخطاب إلى العرب؟
الإجابة بسيطة: لأن العالم العربي يحمل جراحًا عميقة من الاستعمار، والحروب الإعلامية، وهيمنة الغرب.
روسيا تحاول أن تُقدّم نفسها كـمدافعٍ عن القيم التقليدية، والدين، والاستقلال،
وفي المقابل، تصوّر بولندا على أنها خادمةٌ للغرب وخاضعة لنفوذه.
في نظر المشاهد غير المُطّلع، قد تبدو بولندا دولة عدوانية، معادية لروسيا، وتعمل لخدمة مصالح أمريكا وحلف الناتو.
هذا التصوّر يُشكّل خطرًا على علاقات بولندا مع الدول العربية،
لكنه يُهدّد أيضًا وعي المجتمعات العربية،
لأن من يُصدّق هذه الرواية، سيصبح — دون أن يدري — حليفًا غير مباشر للدعاية المضلِّلة.
٤. ماذا يعني ذلك للمشاهدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
إذا قبلنا هذه الرواية التاريخية، فسنبدأ بالتفكير بمنطق: “هم ضدّنا”.
لكنّ الحقيقة أن العالم أكثر تعقيدًا من حكايةٍ ثنائية الألوان في فيلم دعائي.
البولنديون ليسوا أعداءً للعرب.
فبولندا كانت بلدًا متعدد الثقافات عبر قرون، ولديها تاريخ طويل من العلاقات مع الشرق الأوسط،
واليوم هي موطنٌ لآلاف المسلمين الذين يدرسون ويعملون فيها بكرامة وحرية.
ولكن إذا انتصرت الروايات الدعائية، فستُقيم جدارًا من الشك وعدم الثقة.
وهذا بالضبط ما تريده الكرملين: أن تُفرّق، لا أن تُوحّد.
٥. كيف نحمي أنفسنا؟ توصيات للمُتلقي العربي
١. تحقّق من المصدر – إذا كان الفيلم من إنتاج وسيلة إعلام تابعة للدولة، تعامل معه بحذر ووعي.
٢. ابحث عن السياق – لا تحكم على التاريخ من خلال رواية واحدة فقط. اسأل نفسك: ما الذي تم تجاهله؟
٣. انتبه لمشاعرك – إذا شعرت بالغضب أو الاشمئزاز أو الإهانة أثناء المشاهدة، فربما يحاول أحدهم التلاعب بمشاعرك.
٤. افهم الهدف – اسأل: لماذا يعرضون عليّ هذا الفيلم؟ ما الذي يريدونني أن أعتقده عن بولندا؟ عن الناتو؟ عن الحرب؟
٥. لا تدعهم يختارون لك موقعك – الدعاية تريد منك أن تنحاز في الصراع، دون أن تعرف الخلفيات الحقيقية. لا تنجرف دون وعي.
فالمعلومات المضلِّلة لا تعترف بالحدود، لكنّنا — كمُتلقيّن — نملك الحق في أن نعرف: من الذي يروي القصة؟ ولماذا؟
لأنّ الفهم هو الخطوة الأولى نحو الحرية.
———–
A public task financed by the Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Poland within the frame of “Public Diplomacy 2024-2025: The European Dimension and Countering Disinformation” contest
The publication expresses only the views of the author and cannot be identified with the official position of the Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Poland.