في عالمنا اليوم، لم يعد من الضروري استخدام السلاح للفوز بالحروب – يكفي الكلمة. صورة، مقطع فيديو قصير، أو شعار يُعاد تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يكون له تأثير أقوى من أحدث التقنيات العسكرية. لقد أصبحت الفضاءات الرقمية ساحات معارك جديدة – لا تُخاض على الأرض، بل على وعي الناس وإدراكهم. ولهذا، فإن فهم آليات الدعاية والمعلومات المضللة لم يعد ترفًا يقتصر على المتخصصين، بل هو ضرورة لكل مواطن يريد أن يحتفظ بالسيطرة على ما يفكر فيه، وما يشعر به، وما يشاركه مع الآخرين.
هذا النص لا يهدف إلى انتقاد الحكومات أو المؤسسات أو الأفراد. إنما هدفه هو التوعية – توضيح كيف يمكن لأي جهة صاحبة سلطة، سواء كانت دولة أو شركة أو طرفًا خارجيًا، أن تؤثر على الرأي العام من خلال استخدام أدوات السرد والخطاب. فكلما فهمنا هذه الآليات بشكل أعمق، أصبح من الأصعب على أي جهة أن تتحكم فينا أو توجه وعينا دون أن ننتبه.
خلال العقد الأخير، تضاعف عدد مستخدمي الإنترنت في مصر أكثر من مرّتين. وهذا لا يعني فقط أن الوصول إلى المعلومات أصبح أسهل، بل يعني أيضًا أن فرص التعرّض للتلاعب أصبحت أكبر. فالمجتمع المتعطش للمعرفة يواجه بشكل متزايد محتوى لا يهدف إلى التثقيف أو الإخبار، بل إلى إثارة المشاعر: الغضب، الخوف، الشك، وأحيانًا الكراهية. فالعاطفة، وليست الحقيقة، هي الوقود الأساسي للدعاية.
ولا يوجد فراغ في الفضاء الإعلامي. فإذا عجزت وسائل الإعلام الموثوقة عن مخاطبة الناس بلغة بسيطة ومؤثرة ومفهومة، ستملأ هذا الفراغ جهات أخرى تروي القصص بما يخدم مصالحها – حتى وإن لم تكن تلك القصص صادقة. من يتمكن أولًا من تغليف الحقائق في سردٍ مشوّق، يحصل على الانتباه. وفي العصر الرقمي، الانتباه هو العملة الأغلى ثمناً.
من بين النماذج المعروفة التي يستخدمها المتخصصون في دراسة التضليل الإعلامي، يبرز ما يُعرف باسم نموذج “4D”، وهو اختصار لأربعة مصطلحات إنجليزية: “Dismiss” (التشكيك)، “Distort” (التحريف)، “Distract” (الإلهاء)، و”Dismay” (الترهيب). ورغم أن هذه الكلمات قد تبدو غريبة في لفظها، إلا أن ممارساتها مألوفة لنا جميعًا في الحياة اليومية.
أولًا، “Dismiss” تعني التقليل من شأن الخصم أو نزع المصداقية عنه، ليس من خلال الرد على حججه، بل عبر نعته بصفات مثل “عميل أجنبي”، أو “خائن”، أو حتى “غير متزن عقليًا”. أما “Distort”، فهي التلاعب بالمعلومات، كعرض الأرقام دون سياقها الحقيقي، أو استخدام صور مجتزأة، أو المزج بين الحقائق وأنصاف الحقائق لتشكيل صورة مضللة.
النمط الثالث، “Distract”، يقوم على خلق ضجة إعلامية مفاجئة – كفضيحة شخصية أو حادث مثير – للتغطية على حدث أكثر أهمية سياسيًا أو اقتصاديًا. وأخيرًا، “Dismay” يتمثل في إثارة الخوف لدى الجمهور، عبر رسائل توحي بأن التفاعل مع محتوى معين قد يؤدي إلى المساءلة القانونية أو الاجتماعية.
هذه الأدوات الأربع، عند استخدامها معًا أو بشكل متكرر، لا تهدف إلى نقل الحقيقة، بل إلى توجيه المشاعر وصياغة واقع بديل يخدم مصالح من يملك أدوات السرد.
نرى تطبيقات عملية لهذه الاستراتيجيات في الحياة اليومية في مصر. في السنوات الأخيرة، ازدادت السرديات التي تربط بين المشاكل الاقتصادية – مثل ارتفاع الأسعار – وبين وجود المهاجرين أو اللاجئين. هذا النوع من الخطاب لا يستند إلى تحليل علمي لأسباب التضخم أو هيكل السوق، بل إلى تبسيط مفرط يربط الأزمة بجملة واحدة: “الغلاء سببه أن لدينا ضيوفًا كثيرين”. مثل هذا الخطاب يُحوّل الانتباه بعيدًا عن الأسباب الحقيقية للاختلالات الاقتصادية، وينقل إحباط الناس إلى الفئات الأضعف في المجتمع، التي لا تملك لا صوتًا ولا حماية.
مثال آخر يتمثل في ما يمكن تسميته “تمجيد الرموز الوطنية”. مقاطع فيديو قصيرة تُظهر أطفالًا يرددون النشيد الوطني أو يسيرون في زي رسمي تُقابل بتصريحات ناقدة لسياسات الإنفاق الحكومي. الرسالة الضمنية هنا تقول: من ينتقد ميزانية الدولة هو غير وطني، أو ناكر للجميل. هكذا يُوضع المتلقي أمام خيار زائف: إما أن تؤيد الوطن دون شروط، أو تُعتبر “ضده”. وهذه الثنائية المصطنعة تُغلق الباب أمام النقاش العام، وتُحوّل الحوار إلى اختبار ولاء بدلًا من مساءلة مسؤولة.
التضليل لا يستثني حتى المجال الصحي. خلال جائحة كورونا، وكذلك في حالات الأمراض الموسمية، انتشرت محتويات تستند إلى ما يُزعم أنه “أبحاث سرية” أو “علماء من الخارج”، تؤكد – ظاهريًا – فعالية مذهلة لمكملات غذائية، أعشاب، أو تقنيات علاجية غير مثبتة. وغالبًا ما كان وراء هذه الرسائل مؤثرون محليون يعرضون في الوقت نفسه هذه المنتجات للبيع. وبهذا تحوّل الخوف وعدم اليقين إلى وسيلة للتربّح التجاري.
لكن من يقف وراء هذه السرديات؟ في الواقع، الجهات متنوعة. أحيانًا تكون وسائل إعلام رسمية أو شبه رسمية، تستغل منصاتها الكبيرة لبث رواية معينة. وأحيانًا أخرى يكون المرسل مؤثرًا محليًا يصنع مقاطع قصيرة على تطبيقات مثل تيك توك أو Reels، تستهدف فئة الشباب. وهناك كذلك شبكات أوتوماتيكية تُعرف بـ”بوت نت”، وهي حسابات مزيفة تُستخدم بشكل جماعي لتسجيل الإعجابات والتعليقات والمشاركات، فتخلق انطباعًا زائفًا بأن هناك دعمًا شعبيًا واسعًا لمحتوى معين.
وفي بعض الحالات، تكون هناك شركات علاقات عامة أجنبية تعمل خلف الكواليس، تُنفذ حملات مدفوعة تستهدف جمهورًا محددًا برسائل مصممة بعناية. الهدف ليس دائمًا سياسيًا، بل قد يكون اقتصاديًا أو تجاريًا، لكن النتيجة واحدة: توجيه الرأي العام نحو سلوك معين دون أن يعي المتلقي أنه يتعرّض للتأثير.
كل هذه الأساليب تشترك في هدف واحد: إثارة رد فعل والتأثير على القرارات – وليس بالضرورة أن تكون قرارات سياسية. أحيانًا يتعلق الأمر باختيار منتج معين، وأحيانًا بالتصويت في الانتخابات، وأحيانًا – وهو الأخطر – بزرع الشك داخل المجتمع لدرجة تجعل الناس يفقدون ثقتهم في المؤسسات، في وسائل الإعلام، بل وفي بعضهم البعض. فعندما يسود الاعتقاد بأن “الجميع يكذب”، تظهر اللامبالاة، ويتراجع دور العقل. وفي هذه اللحظة، لا يعود القرار بيد من يمتلك المعرفة، بل بيد من يصرخ أعلى.
فكيف نتحصن؟ البداية تكون بالوعي والتأمل. إذا واجهتنا رسالة إعلامية تثير فينا مشاعر قوية – مثل الغضب أو الخوف أو الإحساس بالظلم – فمن الأفضل أن نتريث قبل أن نشاركها. وإذا كانت الرسالة تفتقر إلى تاريخ نشر، أو مصدر موثوق، أو اسم واضح لكاتبها، فذلك مؤشر على ضرورة التشكيك في مصداقيتها. من المفيد أيضًا مقارنة التغطيات: كيف تعالج وسائل الإعلام الأجنبية أو المستقلة الموضوع نفسه؟ هل تظهر روايات مختلفة؟ هذه المقارنة تكشف كثيرًا مما قد يغيب عن المتلقي.
يجب أن ننقل هذه المهارات إلى محيطنا – إلى العائلة والأصدقاء – ونعلّمهم، مثلًا، كيف يمكن التحقق من صحة عنوان خبر عبر كتابته في محرك البحث مع كلمة “خدعة” أو “hoax”، أو كيف نستخدم مواقع التحقق من المعلومات.
الأمر لا يتعلق بمجرد مواجهة خبر كاذب بعينه، بل ببناء مناعة فكرية طويلة الأمد. لأن السؤال الحقيقي ليس “من المحق؟”، بل “من يضع إطار النقاش؟”. من الذي يحدد موضوع الحديث، ونبرة الخطاب، ومن هو في الداخل ومن هو في الخارج؟ وإذا استطعنا نحن تحديد ذلك، فلن تقدر أي حملة تضليلية – محلية كانت أو أجنبية – على جرّنا إلى معركة لم نخترها بإرادتنا.
Wojciech Pokora | المؤلف: فويتشيخ بوكورا