مادة مقلقة في الفضاء الإعلامي العربي
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت في القنوات الإخبارية العربية، بما في ذلك النسخة العربية من موقع “سبوتنيك” الروسي، مادة إعلامية أثارت قلقًا بالغًا. تتعلق هذه المادة بما يُزعم أنه “اكتشاف خلية إرهابية” داخل الاتحاد الروسي، كانت – بحسب جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) – تعمل بأوامر من مبعوث قادم من بولندا. يشير البيان إلى خطط لـ”الاستيلاء على السلطة بالقوة” و”تأسيس خلافة عالمية”.
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كأنّه بلاغ عن تهديد حقيقي. ولكن في الواقع، نحن أمام عملية تلاعب إعلامي، تستهدف ليس فقط المجتمع الروسي، بل أيضًا الجمهور في الدول العربية.
لماذا وُجِّه هذا الخطاب تحديدًا إلى الدول العربية؟
لطالما كانت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ساحةً للتأثيرات الإعلامية، سواء من جانب الغرب أو من جانب روسيا. ويُدرك الكرملين جيدًا أن اتهام الغرب بإثارة الفوضى، والإرهاب، وانهيار النظام الاجتماعي، يمكن أن يجد صدىً واسعًا في مجتمعات أُنهكت من الحروب، والتدخلات الأجنبية، ونفاق السياسات الغربية.
وفي هذا السياق، صُوِّرت بولندا – بصفتها عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحليفًا للولايات المتحدة، وداعمًا نشطًا لأوكرانيا – بشكلٍ مصطنع كدولة تقوم باختراق المجتمعات المسلمة وتغذية التطرف.
في الواقع، لا توجد أي أدلة تدعم هذه المزاعم. إنها رواية مصمَّمة منذ البداية وحتى النهاية لإثارة المشاعر: الغضب تجاه الغرب، عدم الثقة بأوروبا، والخوف من “مؤامرة عالمية” تستهدف البلدان الإسلامية.
آليات التضليل الإعلامي: كيف تعمل الدعاية الروسية؟
المادة التي أعدّها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) والتي نُشرت، من بين جهات أخرى، عبر “سبوتنيك” بالعربية، تحمل جميع سمات العملية النفسية الكلاسيكية:
- تخصيص التهديد – تُذكر شخصية محددة: “مبعوث من بولندا”، ما يمنح الرواية طابعًا واقعيًا ومقنعًا.
- شيطنة الخصم – تُقدَّم بولندا، الدولة المسيحية والأوروبية، على أنها مصدر إلهام للإرهاب الإسلامي، وهي مزدوجة في التضليل، لأنها تعمق الانقسامات الدينية والحضارية.
- الكلمات المفتاحية العاطفية – مثل “الخلافة العالمية”، “الاستيلاء على السلطة بالقوة”، و”الأيديولوجيا الإرهابية”، وهي مصطلحات تهدف إلى إثارة الخوف والغضب.
- تضخيم الرسالة – أي نشرها في الأسواق الإعلامية العربية، حيث ترتبط مفاهيم مثل “الخلافة” و”الحرب على الإرهاب” بحساسيات تاريخية ونفسية قوية.
بهذا الأسلوب، تحاول روسيا أن تُظهر نفسها كضحية، بينما تُصوِّر الغرب كعدو يستغل الإسلام لتحقيق أهدافه الخاصة.
السياق الاجتماعي والسياسي في الدول العربية
في العديد من الدول العربية، تُبدي المجتمعات حساسية شديدة تجاه قضايا الهوية والكرامة والتدخلات الخارجية والاستخدام السياسي للدين. وهذه بالضبط هي المشاعر التي تستغلها الدعاية الروسية. إن محاولة ربط الإسلام بتدخّل أجنبي – وتحديدًا من دولة أوروبية – تهدف إلى إثارة الغضب واستثارة تضامن غريزي مع “ضحايا المؤامرة”.
وفي الوقت ذاته، يُقدِّم الكرملين نفسه كخصم للفوضى، ومدافع عن النظام، ومعارض لما يصفه بـ”الغرب الاستعماري”.
المشكلة في هذا الخطاب لا تكمن فقط في كونه زائفًا، بل أيضًا في كونه خطيرًا. فهو يُعزّز الصور النمطية، ويُعمِّق انعدام الثقة تجاه أوروبا، ويُوظِّف مشاعر المجتمعات العربية لتحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بمصلحتها الحقيقية.
البُعد الدولي والخطر على العلاقات
نشر مثل هذه الرسائل باللغة العربية يهدف إلى إضعاف العلاقات بين الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بولندا. فإذا صدّق الرأي العام في المنطقة أن بولندا تشارك في عمليات سرية ضد المسلمين، فقد يؤدي ذلك إلى تدهور التعاون، وزيادة مشاعر العداء الشعبي، بل وربما يؤثر أيضًا على القرارات الدبلوماسية.
كما أن هذه الرسالة تمثّل اختبارًا. فإذا مرّ هذا النوع من التلاعب دون رد فعل، فإن الكرملين سيشعر بالثقة في استخدام أساليب مماثلة ضد دول أخرى مستقبلاً.
الحقيقة: بولندا والإسلام والمجتمعات المسلمة
في الواقع، تُعد بولندا بلدًا يتمتع بحضور إسلامي تاريخي متجذر – من أبرز مظاهره وجود مجتمع التتار المسلمين الذين يعيشون على أراضي الجمهورية منذ قرون. ولا توجد في بولندا أي مؤسسات تُمارس أنشطة معادية للإسلام. بل على العكس، تعمل المنظمات الإسلامية بشكل قانوني، وهي جزء من الحياة العامة، والدولة تضمن حرية المعتقد الديني.
أما الاتهام بأن بولندا تُلهِم الإرهاب، فلا يستند إلى أي حقائق، بل هو مجرد مشهد دعائي مُلفّق، اُستخدِم لأغراض سياسية بحتة.
توصيات: كيف نواجه مثل هذه الرسائل؟
- التفكير النقدي – إذا أثارت المادة الإعلامية مشاعر قوية، من المهم أن نتساءل: من أعدّها؟ ولماذا؟
- التحقق من المصادر – هل المصدر موثوق؟ هل يعتمد الخطاب على أدلة حقيقية، أم على تلميحات وشبهات؟
- التعلُّم عن آليات الدعاية – فهم كيفية عمل حملات التأثير هو الخطوة الأولى نحو بناء مناعة إعلامية.
- دعم الحوار بين الثقافات – بدلًا من الاستسلام لسرديات “صراع الحضارات” المزعومة، ينبغي تعزيز التعاون، والاحترام المتبادل، والعلاقات الحقيقية المبنية على الوقائع.
إن الحملة الإعلامية الروسية التي تتهم بولندا بدعم الإرهاب ليست مجرد خبر كاذب، بل جزء من خطة أوسع تهدف إلى زرع الانقسام بين حلفاء الغرب، وتفكيك الثقة بين الشعوب، وتصوير روسيا على أنها الشريك الوحيد المستقر. هذا الخطر لا يهدد بولندا وحدها، بل يشمل أيضًا الدول العربية، التي قد تصبح ضحيةً لحملات تضليلية مُوجَّهة من الخارج.
فلنكن واعين، متّزنين، مطّلعين، ومحصّنين في وجه هذا النوع من التلاعب.
A public task financed by the Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Poland within the frame of “Public Diplomacy 2024-2025: The European Dimension and Countering Disinformation” contest
The publication expresses only the views of the author and cannot be identified with the official position of the Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Poland.