Bez tytułu

من المهندسين على ضفاف النيل إلى المستقبل المشترك: تاريخ التعاون الاقتصادي بين بولندا ومصر

يعود تاريخ العلاقات الاقتصادية بين بولندا ومصر إلى عدة قرون. فمنذ العصور الحديثة، بدأ البولنديون يظهرون على ضفاف النيل كحرفيين وتجار ومتخصصين فنيين، ومع مرور الزمن أصبحوا جزءًا من مسيرة تحديث البلاد. ومن تجارة القطن والتوابل إلى بناء المصانع والجسور والمدارس الفنية، تطورت العلاقات الاقتصادية بين الشعبين من مبادرات فردية محدودة إلى روابط مؤسسية راسخة.

التجار والحرفيون والروّاد

تعود أولى آثار الوجود الاقتصادي البولندي في مصر إلى القرن السابع عشر. وتشير المصادر إلى دوروتا فالا من تارزيميهوف في سيليزيا أوبولسكا، التي بين عامي 1630 و1682 أقامت علاقات تجارية مع مدينة السويس، واشتغلت في تجارة الرقيق، إذ كانت تصل عبر السويس إلى السودان لتجلب العبيد منه. كما عُرفت بولندية أخرى باسم ريجينا سالوميا بيلشتينوفا (من عائلة روسيتسكي)، التي عاشت بين عامي 1718 و1760، وكانت تعمل في تجارة الرقيق أساسًا في تركيا، وتذكر بعض المصادر أنها زارت مصر، غير أن الوثائق لا توضح ما إذا كانت زيارتها بصفة “سيدة أعمال” أم “حاجّة” إلى الأراضي المقدسة، إذ يُعرف أنها أدت الحج إلى هناك.

وفي القرن التاسع عشر، كان ستيفان ماروشينسكي، القادم من كراكوف، يعمل في الإسكندرية بين عامي 1880 و1888 في مجال شحن القطن إلى الأسواق الأوروبية. أما في القاهرة، فعمل يوليوس ديمر القادم من لفيف بين عامي 1908 و1910. كذلك كانت في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية شركات تجارية تديرها عائلات يهودية من أصول بولندية، من بينها أبراهام بريس من برزيمشل وأقاربه سولومون يوسف ويعقوب وشوليم مع أسرهم. وتشير الوثائق أيضًا إلى وجود عائلات يهودية جاءت من بلدات مثل شفياتينيا، شتشيريتس، موستيسكا، نادوفرنا، غرودك، بوتشاتش، وستانيسوافوف.

وفي القاهرة، كانت هناك جالية يهودية تعمل في تجارة الورق، من أبرزها ليب وماركوس روزنفيلد من ياروسواف، وكذلك ماكس روزنفيلد الذي كان موظفًا في شركة “Papeterie et Imprimerie”. أما مجال التأمين، فكان يديره في أوائل القرن العشرين ألبرت بينكاسفيلد القادم من كراكوف.

ولم يقتصر الوجود البولندي على التجارة، إذ توافد إلى مصر أيضًا عدد من الحرفيين والمهندسين العسكريين بعد فشل الانتفاضات الوطنية في بولندا. وقد التحق بعضهم بالجيش المصري أو عملوا في مشاريع هندسية، حيث كانت خبراتهم في مجال التحصينات والمساحة والهندسة الهيدروليكية محل تقدير كبير في دولة محمد علي.

مهندسو تحديث مصر

بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، أصبحت مصر مركزًا للاستثمارات الحديثة. ومن بين آلاف الأجانب الذين عملوا في هذا المشروع الضخم، كان هناك أيضًا بولنديون – مهندسون ومسّاحون وفنيون شاركوا في أعمال المسح الميداني وبناء الجسور والطرق. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عمل على ضفاف النيل ميتشيسواف جينيوش، خريج مدرسة الطرق والجسور في باريس، الذي تولى إدارة قسم المياه العذبة في شركة بناء قناة السويس. وقد عمل في الإسماعيلية وبورسعيد، وكانت خبراته في مجالي الهيدرولوجيا والبنية التحتية من أوائل الأمثلة على نقل المعرفة التقنية البولندية إلى مصر. وفي الوقت نفسه، شارك مهندسون بولنديون آخرون في القياسات الهيدروليكية وفي تطوير أنظمة الري في دلتا النيل. كما ساهم المتخصصون البولنديون في تحديث شبكة السكك الحديدية. وقد تميزت أنشطتهم بكونها لم تُبنَ على أهداف توسعية اقتصادية، بل على التعاون العلمي والتقني القائم على الاحترام والثقة المتبادلين.

بين الحربين العالميتين – الجالية الاقتصادية البولندية

في مطلع القرن العشرين بدأت في القاهرة والإسكندرية تتشكل جالية بولندية مهنية ضمّت مهندسين وأطباء ورجال أعمال. وفي عام 1915 تأسست جمعية الضريبة الطوعية للبولنديين وأصدقاء بولندا ومصر، وكان رئيسها مدير المصانع الكيميائية في المنصورة كارول ميغورسكي. وفي عام 1917 بدأت الجمعية في إصدار نشرتها الخاصة. وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين بدأ تدفق المتخصصين البولنديين إلى مصنع الزجاج المصري في ياسين بك قرب القاهرة، حيث تم توظيفهم بموجب عقود حكومية بوساطة جمعية الهجرة في وارسو. كما تمركز عدد كبير من الخبراء البولنديين في بلدة حلوان، حيث تولوا تدريب الشباب المصري للعمل في مصنع الزجاج، مساهمين في نقل المعرفة الصناعية إلى الأجيال الجديدة.

الحرب والتضامن على ضفاف النيل

خلال الحرب العالمية الثانية، كانت مصر قاعدة استراتيجية أساسية لقوات الحلفاء في إفريقيا. وقد تمركزت فيها وحدات من القوات المسلحة البولندية في الشرق، إلى جانب مدارس شبابية ومراكز طبية. عمل البولنديون في الموانئ والمصانع التقنية، فيما حافظت الصحف والإذاعات البولندية في الإسكندرية والقاهرة على الروابط الوطنية. كما وجد العديد من المهندسين والأطباء البولنديين الذين مرّوا عبر فارس وفلسطين فرص عمل في المستشفيات والمدارس والمكاتب الفنية المصرية، مسهمين في إعادة الإعمار والحياة الاجتماعية في البلاد. وبهذا اكتسب التعاون الاقتصادي بين البلدين بعدًا إنسانيًا واجتماعيًا.

عصر الشراكة – البولنديون في بناء مصر الحديثة

بعد عام 1956، عندما أقامت بولندا الشعبية ومصر علاقات دبلوماسية كاملة، ازدهر التعاون الاقتصادي في إطار روح جديدة من التضامن بين الدول النامية. وبدأ تنفيذ عقود لتوريد منشآت صناعية رئيسية، ومعها وصل إلى مصر عدد من الخبراء البولنديين في إطار عقود علمية وتقنية فردية. وفي عام 1956 وصل إلى مصر اثنا عشر طيارًا بولنديًا للملاحة البحرية كانت مهمتهم توجيه السفن عبر قناة السويس التي أُعيد تأميمها حديثًا. وفي عام 1965 منحت بولندا مصر عدة قروض، تلتها استثمارات شملت تجهيز 17 مصنعًا مصريًا لمواد البناء.

بنى البولنديون في مصر مصنع الأنيلين والأصباغ، ومصنع وصلات الأنابيب، ومصنع أدوات القطع، ومصنع الطوب السيليكاتي، ومسبك الحديد الزهر في حلوان، وحتى الجسور. وقد أشرفت على هذه المشاريع الهيئة المركزية لتصدير المنشآت الصناعية الكاملة (CEKOP). وسافر إلى مصر أكثر من 150 خبيرًا بولنديًا، فيما تلقى نحو 100 مصري تدريبًا في مصانع “بوروتا” في مدينة زغيرش.

كما شاركت بولندا في توريد القاطرات وعربات السكك الحديدية، وسيارات “نيسا” و”زوك”، وحافلات “أوتوسان”، والمعدات الزراعية. كما جرى تجميع سيارات “بولونيز” و”فيات 125″ في مصر باستخدام قطع بولندية. وقد نفذ الخبراء البولنديون أيضًا عمليات زراعية جوية لمكافحة آفات القطن.

وفي الوقت نفسه، ازدهر التبادل العلمي، إذ درس الطلاب المصريون في الجامعات التقنية البولندية، فيما ألقى الأساتذة البولنديون محاضرات في القاهرة والإسكندرية. وهكذا أصبحت العلم والتكنولوجيا أحد أعمدة التعاون الاقتصادي بين البلدين.

بداية جديدة بعد عام 1990

بعد التحول السياسي في بولندا، اكتسبت العلاقات الاقتصادية بين بولندا ومصر طابعًا سوقيًا كاملًا، وأصبحت ديناميكيتها تعكس الاحتياجات الفعلية لاقتصادي البلدين. وتركز بولندا اليوم على تصدير المنتجات الصناعية والآلات والمعدات الميكانيكية والكهربائية، التي تشكل إحدى الفئات الرئيسة في مبيعاتها إلى السوق المصري. كما تحتل المنتجات الزراعية والغذائية مكانة مهمة، بما في ذلك التفاح والحبوب ومشتقات الألبان واللحوم، وهي سلع تحافظ على طلب مرتفع من قبل المستوردين المصريين. وتزداد أهمية المنتجات الكيميائية، وخاصة الأسمدة ومستحضرات التجميل والأدوية، إلى جانب المنتجات المعدنية وقطع غيار وسائل النقل.

أما مصر، فتصدر إلى بولندا في المقام الأول المنتجات الزراعية والغذائية مثل الحمضيات والفراولة والخضروات والمكسرات، التي تشكل الجزء الأكبر من الواردات البولندية من هذا البلد. كما تلعب المنسوجات ومنتجات القطن دورًا بارزًا، بالإضافة إلى المنتجات البلاستيكية والمعادن الأساسية بدرجة أقل.

وتحافظ المبادلات التجارية بين البلدين على مستوى متوازن – ففي عام 2024 بلغت قيمة الصادرات البولندية إلى مصر نحو 425 مليون دولار أمريكي، بينما بلغت قيمة الواردات من مصر إلى بولندا نحو 424 مليون دولار أمريكي، ما يعكس توازنًا شبه كامل في حجم التبادل التجاري. وتشير هيكلية التجارة إلى نضج العلاقات الثنائية القائمة على تكامل الأسواق لا على التنافس بينها.

وفي القرن الحادي والعشرين، يزداد التركيز على التقنيات الخضراء والطاقة المتجددة والرقمنة. وتدعم الوكالة البولندية للاستثمار والتجارة رجال الأعمال في القاهرة، بينما تربط المشاريع البحثية والتعليمية المشتركة الجامعات في كلا البلدين، مما يعزز التعاون في مجالات الابتكار والتنمية المستدامة.

جسر ثابت كالنيل

من الحرفيين في القرن السابع عشر إلى المهندسين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، تشكل قصة العلاقات الاقتصادية بين بولندا ومصر حكاية عن العمل والثقة والاحترام المتبادل. فقد ساهم البولنديون الذين جاؤوا إلى ضفاف النيل بخبراتهم ومعرفتهم في تنمية مصر، وفي الوقت ذاته وجدوا هنا أرضًا خصبة لتحقيق طموحاتهم ومبادراتهم. واليوم، في عالم يبحث عن شراكات مستقرة قائمة على المعرفة والتكنولوجيا، تمثل العلاقات البولندية–المصرية دليلًا على أن الاقتصاد يمكن أن يكون أكثر من مجرد تبادل للسلع، بل شكلًا من أشكال الثقة المتبادلة والتنمية المشتركةجسرًا يظل قائمًا ما دام النيل يجري.