Bez tytułu

بولندا ولبنان – شراكة من أجل ازدهار الشعبين

مع نهاية عام 2025 يمكن وصف العلاقات الاقتصادية بين بولندا ولبنان بأنها علاقات شراكة تتطور بشكل ثابت ومتصاعد. وعلى الرغم من المسافة الجغرافية التي تفصل بين البلدين، فإنهما يرتبطان بتاريخ غني من التواصل وتعاون متنامٍ يشمل المساعدات الإنسانية والتبادل التجاري والاستثمارات. تقوم هذه العلاقات على البراغماتية والمصالح المتبادلة والثقة، وهي عناصر تمنحها طابعًا مستقرًا وطويل الأمد.

بدايات العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية

تعود جذور الاتصالات الرسمية بين بولندا ولبنان إلى فترة ما بين الحربين العالميتين. فمنذ الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1933 كان في بيروت عملاء قنصليون للجمهورية البولندية يتولون الشؤون التجارية والبحرية في أراضي لبنان وسوريا. وقد شكّل ذلك أول هيئة تمثيلية دائمة لبولندا في المنطقة، أُنشئت بشكل أساسي لدعم التبادل الاقتصادي وحماية مصالح الشركات البولندية. أما المسائل الإدارية والمدنية الأخرى فكانت آنذاك ضمن اختصاص القنصلية البولندية في مرسيليا.

ومع تزايد أهمية بيروت كمركز للتجارة والملاحة البحرية، تم في عام 1939 إنشاء نائب قنصلية للجمهورية البولندية في العاصمة اللبنانية، والتي جرى تحويلها في الأول من نيسان/أبريل 1940 إلى قنصلية عامة للجمهورية البولندية. وفي 15 كانون الأول/ديسمبر 1943 حصل القنصل العام البولندي في بيروت في الوقت نفسه على اعتماد لدى الحكومة اللبنانية بصفته ممثلاً دبلوماسياً لحكومة بولندا في المنفى في لندن، برتبة وزير مفوض. وقد تم في الأول من آب/أغسطس 1944 إرساء العلاقات الدبلوماسية رسميًا بين بولندا ولبنان، مما توّج عملية طويلة لبناء الحضور البولندي في المنطقة.

ومن الجدير بالذكر أن نشاط الخدمة القنصلية البولندية في بيروت منذ ثلاثينيات القرن العشرين لم يقتصر على القضايا الدبلوماسية، بل شمل أيضًا الجوانب الاقتصادية، من خلال دعم التجارة البحرية وتصدير البضائع وتطوير العلاقات التجارية بين البلدين.

التجارة – من التفاح البولندي إلى زيت الزيتون اللبناني

شهد التعاون الاقتصادي بين بولندا ولبنان في السنوات الأخيرة انتعاشًا واضحًا. فبعد فترة من الجمود المرتبط بالأزمة الاقتصادية في لبنان، استعاد التبادل التجاري ديناميكيته من جديد. ففي عام 2018 تجاوزت المبادلات التجارية للمرة الأولى منذ عقد واحد حاجز 100 مليون دولار أمريكي، وفي عام 2024 بلغ حجم الصادرات البولندية نحو 96 مليون دولار، وهو رقم يؤكد الإمكانات المستقرة للسوق رغم صعوبة الظروف الاقتصادية الكلية.

تصدّر بولندا إلى لبنان مجموعة متنوعة من السلع تشمل الآلات والمعدات والأجهزة المنزلية والمنتجات الزراعية والغذائية والمواد الصناعية ومواد البناء. ومن بين السلع ذات الأهمية الأكبر توربينات الغاز والإطارات والأجبان واللحوم والحبوب والمواشي الحية. أما لبنان فيصدّر إلى بولندا كميات أقل بكثير، إذ بلغت قيمة الواردات في عام 2019 نحو 13 مليون دولار أمريكي، غير أنّها منتجات متخصصة وذات جودة عالية، مثل الأمعاء الطبيعية لصناعة اللحوم، والكابلات الكهربائية، وزيت الزيتون، والنبيذ، والفواكه الطازجة. ويُعدّ التبادل التجاري غير متوازن، إذ يميل الميزان التجاري لصالح بولندا منذ سنوات. ومع ذلك يتطور التعاون بروح المصالح المتبادلة. فبولندا، المعروفة بصادراتها من الأغذية والأثاث ومواد البناء، تجد في لبنان سوقًا واعدة، خصوصًا في القطاع الغذائي. ونظرًا لضيق المساحات الزراعية، يستورد لبنان معظم غذائه، مما يخلق طلبًا دائمًا على التفاح البولندي ومنتجات الألبان واللحوم والحبوب والمعلبات الزراعية.

ويظهر إمكان التعاون أيضًا في قطاعي البناء والطاقة. فبرامج إعادة الإعمار وتحديث البنية التحتية في لبنان بعد فترات الأزمات تفتح المجال أمام الشركات البولندية المتخصصة في السيراميك والأدوات الصحية والأبواب والنوافذ وتقنيات العزل الحراري. كما يمكن لبولندا، بخبرتها في كفاءة الطاقة، دعم الجهود اللبنانية في مجال ترشيد استهلاك الطاقة والبناء الصديق للبيئة.

أصبح التبادل التجاري بين البلدين أكثر توازناً واتجاهاً مزدوجًا. فالبولنديون بدأوا يقدّرون المنتجات والمطبخ اللبناني، وهو ما يظهر في تزايد عدد المطاعم اللبنانية في المدن البولندية. كما باتت المنتجات الغذائية اللبنانية، ولا سيما النبيذ وزيت الزيتون والتوابل والفواكه الطازجة، تظهر بشكل متزايد في السوق البولندية. وتبرز الفواكه تحديدًا كقطاع ذي إمكانات كبيرة؛ إذ يمكن للفراولة والتين والعنب والحمضيات اللبنانية، التي تنضج على مدار معظم شهور السنة، أن تُصدَّر إلى بولندا خارج موسم الحصاد المحلي. مثل هذا التوسّع في الاستيراد لا يثري خيارات المستهلك البولندي فحسب، بل يدعم أيضًا الزراعة اللبنانية، مما يجعل التبادل التجاري مفيدًا اقتصاديًا واجتماعيًا لكلا الطرفين.

الاستثمارات والأعمال – رأس المال يتدفق في الاتجاهين

لم يقتصر بناء الجسر بين وارسو وبيروت على التجارة فحسب، بل يشمل اليوم أيضًا الاستثمارات. فقبل عام 2020 كانت الاستثمارات البولندية المباشرة في لبنان رمزية للغاية (نحو 0.1 مليون دولار فقط حتى نهاية عام 2018)، وهو ما كان مرتبطًا بحذر قطاع الأعمال تجاه عدم الاستقرار في المنطقة. في المقابل، كان رأس المال اللبناني منذ سنوات طويلة يبحث عن فرص خارج البلاد، تقليديًا في الدول الفرنكوفونية والولايات المتحدة ودول الخليج، إلا أن جزءًا من هذه الأموال وصل أيضًا إلى بولندا. ورغم أن الاستثمارات اللبنانية في بولندا صغيرة الحجم (نحو 15 مليون دولار في 2018)، إلا أنها تتركز في قطاع الصناعات الغذائية (مثل معالجة الأغذية وتجارة المنتجات الاستوائية)، وصناعة الورق، وحتى في الفندقة والمطاعم. ويمكن العثور في المدن البولندية على مطاعم يديرها لبنانيون تجذب الزوار بروائح لحم الضأن المشوي وتوابل الشرق الأوسط. وهي تفاصيل صغيرة ولكنها تعبّر عن الوجود التجاري اللبناني على ضفاف فيستولا.

ومن قصص النجاح البارزة شركة Technica، وهي مؤسسة عائلية لبنانية متخصصة في تصنيع خطوط الإنتاج الحديثة للعلامات التجارية العالمية. ففي عام 2019 قررت الشركة افتتاح مقرها الأوروبي في بولندا تحديدًا. لماذا؟ تجيب سينتيا أبو خاطر من مجلس إدارة Technica: “اخترنا بولندا لأن لديكم بالفعل أشخاصًا أكفاء يتمتعون بحسّ تجاري. بالمقارنة مع بقية دول أوروبا، تُعد بولندا جذابة من حيث التكلفة، فضلًا عن موقعها في قلب القارة”. تمثل هذه الخطوة مثالًا واضحًا على التداخل بين رأس المال والخبرة. فالشركة اللبنانية تستفيد من الموقع البولندي ومن الكوادر المحلية، وتوفر فرص عمل للبولنديين، وفي الوقت نفسه تجلب إلى بولندا خبرتها الدولية وشبكة علاقاتها.

وتكشف مثل هذه الأمثلة أن إمكانات التعاون الاستثماري ما تزال في بدايتها. فمع تحسن الأوضاع في لبنان مستقبلًا، يمكن توقع اهتمام أكبر من الشركات البولندية بالمشاركة في مشاريع البنية التحتية هناك، سواء في إعادة بناء شبكة الطاقة أو تحديث منظومة إدارة المياه. وقد تعهدت بولندا بالفعل خلال مؤتمر المانحين عام 2018 بتقديم 10 ملايين دولار لدعم بناء منازل جاهزة للاجئين السوريين في لبنان. وقد استُخدمت هذه المخصصات لإنشاء مجمع سكني لنحو ألف عائلة سورية، في مشروع شاركت فيه شركات بولندية قدّمت تقنيات المنازل الجاهزة. إنها استثمارات إنسانية لكنها شكلت في الوقت ذاته دفعة للنشاط الاقتصادي.

التضامن في الأوقات الصعبة: المساعدات البولندية للبنان

كانت السنوات الأخيرة فترة استثنائية من التحديات بالنسبة للبنان. فالأزمة الاقتصادية المستمرة منذ عام 2019، والتضخم الحاد، وكارثة انفجار مرفأ بيروت عام 2020 أضعفت بشكل كبير أسس الدولة واقتصادها. وزادت تداعيات الحروب في المنطقة من صعوبة الوضع. فقد أدى الصراع في سوريا إلى تدفق أكثر من مليون لاجئ، كما أن تصاعد المواجهات في قطاع غزة وجنوب لبنان، حيث تحدث عمليات قصف وانتهاكات متكررة للحدود مع إسرائيل، تسبب في دمار وحركات نزوح داخلية. وقد أدت هذه العوامل، إلى جانب تدهور قيمة الليرة اللبنانية وانهيار القطاع المصرفي، إلى نشوء أزمة اجتماعية اقتصادية عميقة تمس جميع سكان البلاد.

أمام هذه التحديات، استجابت بولندا — انطلاقًا من مبدأ التضامن وتشابك المصالح — بمساعدات إنسانية وتنموية شاملة، من خلال برامج حكومية ومبادرات للمنظمات غير الحكومية. ويهدف الدعم البولندي إلى أكثر من مجرد التعامل مع آثار الكوارث والنزاعات؛ إذ يركز أيضًا على تعزيز صمود الاقتصاد اللبناني، وإعادة بناء البنية التحتية، وخلق ظروف تؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي.

ويتميز الانخراط البولندي بطابع طويل الأمد. فمنذ عام 2018 يُعدّ لبنان من الدول ذات الأولوية في برنامج المساعدات التنموية البولندية، ما يعني تخصيص تمويل أكبر للمشاريع التي تدعم إعادة بناء الاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة. وتلعب مؤسسة المركز البولندي للمساعدات الدولية (PCPM)، العاملة في لبنان منذ عام 2012، دورًا أساسيًا في هذه الجهود. إذ تنفذ مشاريع في مجالات البنية التحتية والزراعة والطاقة، تؤثر بشكل مباشر في الاقتصاد المحلي. فقد ساهمت إعادة تأهيل الطرق والجسور، وتنظيف مجاري الأنهار، وتحديث أنظمة الري، في إعادة النشاط الزراعي إلى مناطق كانت سابقًا مغمورة أو معزولة عن شبكات النقل.

وتركز المساعدات البولندية أيضًا على التنمية المستدامة في قطاع الطاقة. ففي القرى الجبلية تُركَّب ألواح شمسية توفر الكهرباء بشكل مستقر، مما يمكّن المصانع الصغيرة والمزارع من العمل بانتظام. كما تُدعَم برامج التدريب المهني التي تساعد السكان على اكتساب مهارات جديدة، تتيح لهم الاندماż في قطاعات إعادة الإعمار والخدمات.

وتحقق هذه المساعدات العملية، الموجهة نحو دعم الاقتصاد، آثارًا طويلة المدى: فهي تخلق فرص عمل، وتعيد بناء البنية التحتية، وتنعش الإنتاج الزراعي، وتخفف في الوقت نفسه من آثار الأزمة الاجتماعية. ولبنان المستقر والمتطور يشكل كذلك شريكًا اقتصاديًا يمكن لبولندا أن تتعاون معه في تحقيق أهداف مشتركة، من الأمن الغذائي إلى استعادة إمكانات التجارة الإقليمية.

القيم المشتركة وآفاق التطوّر

إن العلاقات بين بولندا ولبنان ليست مجرد تاريخ من المساعدة والتضامن، بل هي شراكة تقوم أيضًا على خبرة مشتركة في تجاوز الأزمات وبناء الدولة في ظروف صعبة. يجمع البلدين نهجٌ براغماتي وقناعة بأن الاستقرار الاقتصادي يشكل أساس السيادة. وبولندا، التي نجحت خلال العقود الأخيرة في تنفيذ تحول اقتصادي واسع، تستطيع اليوم أن تشارك لبنان خبرتها في الإصلاحات المالية، وإعادة بناء المؤسسات، ودعم ريادة الأعمال. كما تسهم الشراكات الأكاديمية وتبادل الطلاب في تعزيز الفهم المتبادل وتسهيل انتقال المعرفة، وهو ما ينعكس إيجابًا بالفعل على العلاقات الاقتصادية.

وتظل أولوية المستقبل الكبرى هي تحقيق الاستقرار الاقتصادي وإعادة بناء البنية التحتية. ويمكن لبولندا أن تلعب دورًا مهمًا في تحديث قطاع الطاقة اللبناني، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة. كما يشكل الاستثمار المشترك في الزراعة والأمن الغذائي اتجاهًا واقعيًا وواعدًا للتعاون. إذ يمكن لنقل التكنولوجيا، وتطوير أنظمة الري، ودعم صغار المزارعين، أن يسهم في الحد من البطالة وزيادة الإنتاج المحلي.

وفي المجالين الاجتماعي والثقافي يزداد دور السياحة والتبادل الإنساني. فربط البلدين برحلات جوية مباشرة، وإطلاق مبادرات مشتركة لتعزيز الثقافة والتراث، يساعد على تعميق المعرفة المتبادلة وبناء روابط طويلة الأمد، وهو ما ينبغي أن ينعكس في المستقبل أيضًا على المكاسب الاقتصادية.

وخلال السنوات المقبلة يمكن لبولندا ولبنان أن يشتركا في صياغة نموذج للتعاون يجمع بين المساعدات التنموية والاستثمارات، وبين العلم والممارسة الاقتصادية، وبين التضامن والفعالية. إن الشراكة القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة تمنح أساسًا واقعيًا لأن تأخذ العلاقات البولندية اللبنانية بُعدًا جديدًا ومستدامًا خلال العقد القادم.