
لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ عَامٍ، تَرْتَبِطُ بُولَنْدَا وَمِصْرُ بِعَلَاقَةٍ فَرِيدَةٍ، تَصْنَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالرُّوحُ الاِسْتِكْشَافِيَّةُ وَاحْتِرَامُ التُّرَاثِ جِسْرًا رَاسِخًا بَيْنَ أُورُوبَّا وَالْعَالَمِ الْعَرَبِيّ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْمَسَافَاتِ الْجُغْرَافِيَّةِ وَاخْتِلَافِ التَّقَالِيدِ الثَّقَافِيَّةِ، لَقِيَ الشَّعْبَانِ بَعْضَهُمَا فِي فَضَاءِ الْمَعْرِفَةِ. وَتَمْتَدُّ هَذِهِ قِصَّةُ التَّعَاوُنِ الطَّوِيلَةُ لِعُلَمَاءَ جَمَعَهُمْ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ السِّيَاسِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ وَاللُّغَوِيَّةَ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ التَّعَاوُنَ الأَكْدِيمِيَّ الرَّسْمِيَّ لَمْ يَتَشَكَّلْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، فَإِنَّ جُذُورَهُ تَعُودُ إِلَى الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَر، حِينَ كَانَتِ الصِّلَاتُ الْأُولَى بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ ذَاتَ طَابِعٍ مَعْرِفِيٍّ وَدِينِيٍّ وَرِحْلِيّ. وَخِلَالَ الْقُرُونِ التَّالِيَةِ تَغَيَّرَتْ أَشْكَالُ هَذِهِ الصِّلَاتِ، فَامْتَدَّتْ مِنَ الْوَصْفِ وَالْبِعَثَاتِ الدِّينِيَّةِ، إِلَى نَشَاطِ مُهَنْدِسِينَ عَسْكَرِيِّينَ وَمُسْتَشْرِقِينَ، ثُمَّ إِلَى أَبْحَاثٍ أَثَرِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَبَرَامِجَ مِنَحٍ دِرَاسِيَّةٍ وَأَرْشِيفَاتٍ رَقْمِيَّةٍ لِلتُّرَاثِ الثَّقَافِيّ.
وَتُظْهِرُ هَذِهِ الرِّحْلَةُ التَّارِيخِيَّةُ أَنَّ الْعِلْمَ كَانَ أَثْبَتَ لُغَةٍ لِلْحِوَارِ بَيْنَ الْبُولَنْدِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الْحُدُودِ وَالْأَنْظِمَةِ وَالسِّيَاقَاتِ السِّيَاسِيَّةِ. فَفِي مَجَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالِاكْتِشَافِ وَالتَّعْلِيمِ تَشَكَّلَ رَبَاطٌ فَرِيدٌ يَرْبُطُ بَيْنَ الشَّعْبَيْنِ، رَبَاطٌ قَائِمٌ عَلَى فَهْمِ الْعَالَمِ وَالاِحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ وَالسَّعْيِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى اسْتِيعَابِ حَضَارَةِ الآخَر.
وَمِنَ الْمُهِمِّ التَّأْكِيدُ عَلَى أَنَّ الْعَلَاقَاتِ الْعِلْمِيَّةَ وَالْمَعْرِفِيَّةَ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ تُعَدُّ مِنْ أَقْدَمِ وَأَمْتَنِ أَوْجُهِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ أُورُوبَّا الْوُسْطَى وَالْعَالَمِ الْعَرَبِيّ.
١. بَدَايَاتُ التَّوَاصُلِ الْعِلْمِيّ وَالْمَعْرِفِيّ (الْقَرْنَانِ السَّابِعَ عَشَر وَالثَّامِنَ عَشَر)
تَعُودُ أَقْدَمُ الْإِشَارَاتِ إِلَى وُجُودِ الْبُولَنْدِيِّينَ فِي مِصْرَ إِلَى نِهَايَةِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَر. وَكَانَ طَابِعُ نَشَاطِهِمْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ دِينِيًّا تَبْشِيرِيًّا بِالْأَسَاس، غَيْرَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ وَالْمُرَاسَلَاتِ الَّتِي خَلَّفُوهَا تَضَمَّنَتْ مُلَاحَظَاتٍ جُغْرَافِيَّةً وَإِثْنُوغْرَافِيَّةً وَطَبِيعِيَّةً قَيِّمَة. وَفِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَر، سَافَرَ الْمُبَشِّرُونَ وَالْعُلَمَاءُ وَرِجَالُ الدِّينِ مِنَ الْكُمْنُوَلْثِ إِلَى دِيَارِ الشَّرْقِ وَمَا بَعْدَهَا نَحْوَ أَفْرِيقْيَا، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْغَايَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَلَاحِظِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ.
وَمِنْ نِهَايَةِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَر تَرِدُ إِشَارَةٌ إِلَى الأَخ بَاوِل مِن مَالُوبُولْسْكَا، الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِلْعَمَلِ فِي الْبِعْثَاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ فِي ٢ يُولْيُو ١٦٩٥. وَفِي الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَر اتَّخَذَتْ هَذِهِ الْبِعْثَاتُ طَابِعًا أَكْثَرَ تَنْظِيمًا. وَتُسَجِّلُ الْمَصَادِرُ نَشَاطَ أَشْخَاصٍ مِنْهُمْ: يَان مِن بُولَنْدَا (١٣ أَبْرِيل ١٧١١)، كَازِيمِيرْ نِيرْلِيخ مِن سِيلِيزْيَا (تُوُفِّي فِي الْقَاهِرَةِ فِي أَبْرِيل ١٧١٨)، يَان كْرِيسْبِين سوباخا مِن مُقَاطَعَةِ فِييلكُوبُولْسْكَا (نَحْوَ ١٧٢٠)، أَنْدْرِيج يُورْدَان (١٧٥٥)، وَأَنْطُونِي بُورْنِيتْسْكِي (١٧٦٢–١٧٦٣) مِنَ الْمُقَاطَعَةِ اللِّيتْوَانِيَّة. وَقَدْ خَلَّفَ هَذَا الأَخِيرُ مَذْكُورًا مَسُودَّاتٍ قَيِّمَةً عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَآثَارِهَا وَعَادَاتِهَا، وَذَكَرَ – فِيمَا ذَكَرَ – «إِبَرَ كِلِيُوبَاتْرَا» وَعَمُودَ بُومْبِي.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبَشِّرِينَ لَمْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ بِالْمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَدْ قَامُوا بِمَلَاحِظَاتٍ مُنْهَجِيَّةٍ حَوْلَ الطَّبِيعَةِ وَالْمُنَاخِ وَاللُّغَةِ، وَدَوَّنُوهَا، لِيَضَعُوا أَوَّلَ لَبِنَاتِ التَّأَمُّلِ الْعِلْمِيّ الْبُولَنْدِيّ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيّ.
٢. الرُّوَّادُ وَأُسُسُ التَّعَاوُنِ (الْقَرْنَانِ الثَّامِنَ عَشَر وَالتَّاسِعَ عَشَر)
الْحَمْلَةُ النَّابِلْيُونِيَّةُ وَمِيلَادُ التَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ الْبُولَنْدِيّ الْمِصْرِيّ
فَتَحَتْ حَمْلَةُ نَابِلْيُون بُونَابَارْت إِلَى مِصْرَ عَامَ ١٧٩٨ فَصْلًا جَدِيدًا فِي تَارِيخِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ، إِذْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ. فَقَدْ ضَمَّ «جَيْشُ الشَّرْقِ» ضُبَّاطًا وَمُهَنْدِسِينَ بُولَنْدِيِّينَ، لَعِبُوا دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَنْظِيمِ الْبَعْثَةِ الْبَحْثِيَّةِ الْمُرَافِقَةِ لِلْحَمْلَةِ. وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ يُذْكَرُ يُوزِيف سُووكُوفْسْكِي، أَدْيُوتَان نَابِلْيُون، الْمُعْتَبَرُ أَحَدَ أَوَّلِ الْبُولَنْدِيِّينَ الَّذِينَ شَارَكُوا فِي مَشْرُوعٍ ذِي طَابِعٍ عِلْمِيٍّ اسْتِكْشَافِيّ عَلَى الْأَرَاضِي الْمِصْرِيَّةِ. وَقَدْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ مَهَامٌّ مَدَنِيَّةٌ فِي «الْمَعْهَدِ الْمِصْرِيّ»، وَهُوَ أَكْدِيمِيَّةُ الْعُلُومِ فِي الْقَاهِرَةِ.
وَعَمِلَ إِلَى جَانِبِهِ يُوزِيف شُومْلَانْسْكِي، الَّذِي دَوَّنَ مُلَاحَظَاتٍ عَنِ سُكَّانِ مِصْرَ وَعَادَاتِهِمْ وَخَاصَّةً عَنِ الْآثَارِ، فِي عَمَلٍ صَغِيرٍ حَمَلَ عُنْوَان «الْحَمْلَةُ الْمِصْرِيَّةُ سَنَةَ ١٧٩٨». كَمَا يَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ يُوزِيف فِيلِيكْس وَازُوفْسْكِي، الَّذِي اشْتُهِرَ أَوَّلًا بِتَحْصِينِهِ خُوتِيم وَأَكِرْمَان عَلَى نَهْرِ الدِّنِسْتِر، وَإِزْمَايِل عَلَى نَهْرِ الدَّانُوب. وَفِي مِصْرَ، بَصَفَتِهِ رَئِيسَ لِوَاء الْمُهَنْدِسِينَ، أَعَدَّ خَرِيطَةَ مُحَافَظَةِ الْمَنُوفِيَّةِ فِي الدِّلْتَا، مُصَحِّحًا أَخْطَاءً فِي خَرِيطَةِ مِصْرَ الَّتِي وَضَعَهَا دَانْفِيل، لِسَيَّمَا فِي مَنْطِقَةِ دِلْتَا النِّيل. وَفِي سَنَةِ ١٨٠٠ شَارَكَ لَازُوفْسْكِي فِي إِعْدَادِ خَرِيطَةٍ طُوبُوغْرَافِيَّةٍ لِمِصْرَ نُشِرَتْ لَاحِقًا فِي بَارِيس. وَكَانَ أَيْضًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُتَحَمِّسِينَ لِإِنْشَاءِ قَنَاةٍ مِلَاحِيَّةٍ تَعْبُرُ بَرْزَخَ السُّوَيْس، وَقَدْ كَانَتْ آثَارُ «قَنَاةِ الْفَرَاعِنَةِ» الْقَدِيمَةِ لا تَزَالُ وَاضِحَةً آنَذَاك.
وَعَمِلَ فِي الْفِرْقَةِ الْإِكْسِبِيدِيشِيَّةِ النَّابِلْيُونِيَّةِ فِي مِصْرَ أَيْضًا الْمُسْتَشْرِقُ الْبَارِزُ وَاللُّغَوِيُّ الضَّلِيعُ، الْيَهُودِيّ الْبُولَنْدِيّ زَالْكِينْد سَالُومُون هُورْفِيتْس (١٧٤٠–١٨١٢)، وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهُ مِنْ مَدِينَةِ لُوبْلِين. وَقَدْ عَيَّنَهُ نَابِلْيُون مُدِيرًا لِمَطْبَعَةِ الطِّبَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالصُّحُفِ، وَلِمَدْرَسَةٍ فَرَنْسِيَّةٍ فِي الْقَاهِرَةِ.
الْمُهَاجِرُونَ وَالْمُهَنْدِسُونَ وَبُنَاةُ مِصْرَ الْحَدِيثَةِ (الْقَرْنُ التَّاسِعُ عَشَر)
بَعْدَ سُقُوطِ الْاِنْتِفَاضَاتِ الْوَطَنِيَّةِ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعِ عَشَر، أَصْبَحَتْ مِصْرُ مَلْجَأً لِلْمُهَنْدِسِينَ وَالتِّقْنِيِّينَ وَالْعَسْكَرِيِّينَ الْبُولَنْدِيِّينَ، الَّذِينَ وَجَدُوا فِيهَا لَيْسَ فَقَطْ مَأْوًى، بَلْ فُرْصَةً لِلْعَمَلِ بِمَا يُنَاسِبُ تَخَصُّصَهُمْ وَطُمُوحَهُمْ الْعِلْمِيَّةَ. وَقَدْ حُفِظَتْ فِي الْأَرْشِيفَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَفِي مَصَادِرِ الْمَهْجَرِ الْبُولَنْدِيَّةِ آثَارُ نَشَاطِهِمْ، وَشَمِلَتْ مَشَارِيعَ عَسْكَرِيَّةً وَمَدَنِيَّةً عَلَى حَدٍّ سَوَاء.
وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ يُذْكَرُ يُولْيَان دُوشِينْسْكِي، مُدَرِّبُ سِلَاحِ الْفُرْسَانِ فِي الْجَيْشِ الْمِصْرِيّ نَحْوَ سَنَةِ ١٨٤٠، وَإِيغْنَاتْسِي تْشِيشِيفْسْكِي (١٨٧٥–١٩٢٤)، خِرِّيجُ مَعْهَدِ مُهَنْدِسِي الْمَوَاصِلِ فِي بِتَرْسْبُورْغ، الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى مِصْرَ مِنْ قِبَلِ إِدَارَةِ سِكَّةِ حَدِيدِ أَسْتِرَاخَان لِلدِّرَاسَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ لِلْجُسُورِ فِي دِلْتَا النِّيل. وَقَدِ اسْتَفَادَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا فِي مِصْرَ لِيُسَاهِمَ فِي بِنَاءِ جِسْرٍ فَوْقَ أَحْدِ أَذْرُعِ نَهْرِ الْفُولْغَا.
وَكَانَ لِإِنْجَازَاتِ الْمُلازِم تُومَاش بَارْتْمَانْسْكِي أَهَمِّيَّةٌ خَاصَّة، فَهُوَ مُهَنْدِسٌ وَمُسْتَكْشِفٌ اكْتَشَفَ بَقَايَا قَنَاةٍ قَدِيمَةٍ كَانَتْ تَرْبِطُ نَهْرَ النِّيلِ بِالْبَحْرِ الْأَحْمَر. كَمَا شَارَكَ فِي الْحَمْلَةِ الَّتِي نَظَّمَهَا مُحَمَّد عَلِي إِلَى «جِبَالِ الْقَمَر» وَمَنَابِعِ النِّيل.
الْبَاحِثُونَ وَالطَّبِيعِيُّونَ وَعُلَمَاءُ الْمِصْرِيَّات – الْعِلْمُ جِسْرٌ بَيْنَ الثَّقَافَات
فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَر، بَدَأَ الْحُضُورُ الْعِلْمِيُّ الْبُولَنْدِيُّ فِي مِصْرَ يَأْخُذُ طَابِعًا مُنَظَّمًا. فَقَدْ شَارَكَ الْبُولَنْدِيُّونَ فِي بَعَثَاتٍ طَبِيعِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ وَأَثَرِيَّةٍ نُفِّذَتْ فِي إِطَارِ تَعَاوُنٍ دَوْلِيّ. وَمِنْ بَيْنِهِمْ أَلِكْسَانْدَر وَكُونْسْتَانْتِي بْرَانِيسْكِي، مُنَظِّمَا الرِّحْلَاتِ الزُّولُوجِيَّةِ (١٨٦٣–١٨٧٤)، بِمُشَارَكَةِ هِينْرِيك دْجِيدْجِيسْكِي وَأَنْطُونِي وَاغَا. وَقَدْ سَاهَمَتْ أَبْحَاثُهُمْ فِي مِصْرَ وَالنُّوبَةِ فِي إِثْرَاءِ الْمَجْمُوعَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي وَارْسُو وَكْرَاكُوف.
وَفِي الْفَتْرَةِ نَفْسِهَا، تَطَوَّرَ عِلْمُ الْمِصْرِيَّاتِ الْبُولَنْدِيّ، وَهُوَ تَخَصُّصٌ كَانَ مِنْ بَنَّائِيهِ مِيخَال تِيشْكِيفِيتْش (١٨٢٨–١٨٩٧) وَيُوزِيف كُوشْتْسِيِلْسْكِي (١٨١٦–١٨٨٥). فَقَدْ أَجْرَى تِيشْكِيفِيتْش حَفَرِيَّاتٍ فِي طِيبَةَ وَالْكَرْنَك وَإِسْنَا، وَتَعَاوَنَ مَعْ أُوغُوسْت مَارِيِيت، وَقَدْ نُقِلَتْ مَجْمُوعَاتُهُ مِنَ الْآثَارِ إِلَى مُتَاحِفِ كْرَاكُوف وَبَارِيس وَلَنْدَن. أَمَّا كُوشْتْسِيِلْسْكِي فَشَارَكَ فِي تَوْثِيقِ الْمَقَابِرِ وَالْمَدَافِنِ مِنْ عَصْرِ الدَّوْلَةِ الْقَدِيمَةِ، وَتُعَدُّ مَلَاحِظَاتُهُ مِنْ أَوَائِلِ أَمْثِلَةِ التَّوْثِيقِ الْأَثَرِيّ الْبُولَنْدِيّ فِي مِصْرَ.
وَفِي نِهَايَةِ الْقَرْنِ، بَدَأَ أَوَّلُ الْأَكَادِيمِيِّينَ الْبُولَنْدِيِّينَ نَشَاطَهُمْ الْعِلْمِيَّ فِي مِصْرَ، مِثْل تَادْيُوش سْمُولِينْسْكِي، تِلْمِيذ غَاسْتُون مَاسْبِيرُو، الَّذِي أَدَارَ بَيْنَ ١٩٠٧ وَ١٩٠٨ حَفَرِيَّاتٍ فِي شَاوْرِين وَالْجَمْهُود، وَتُعَدُّ تَقَارِيرُهُ لِأَكَادِيمِيَّةِ الْمَهَارَاتِ فِي كْرَاكُوف بَدَايَةَ تَشَكُّلِ عِلْمِ الْمِصْرِيَّاتِ الْبُولَنْدِيّ الْمُنَظَّم. وَفِي سَنَةِ ١٩٠٨ وَاصَلَ الْأَبْحَاثَ وْلادِيسْوَاف شْتْشِيبَانْسْكِي، أُسْتَاذُ الْآثَارِ التُّورَاتِيَّةِ فِي جَامِعَةِ وَارْسُو.
٣. الْقَرْنُ الْعِشْرُون: مِنْ تَقَالِيدِ الْمُسْتَكْشِفِينَ إِلَى الْعِلْمِ الْمُؤَسَّسِيّ
الْمَحَطَّةُ الْبُولَنْدِيَّةُ لِلْآثَارِ فِي الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّط – مُؤَسَّسَةُ الْعِلْمِ وَالْأَرْكِيُولُوجْيَا
بَعْدَ الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، دَخَلَ التَّعَاوُنُ الْعِلْمِيّ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً طَبِيعَتُهَا التَّأْسِيسُ وَالتَّنْظِيمُ الْمُؤَسَّسِيّ. فَقَدْ أَصْبَحَتْ بُولَنْدَا، بِفَضْلِ مَكانَةِ مَدْرَسَتِهَا الْأَثَرِيَّةِ، أَحَدَ أَهَمِّ الشُّرَكَاءِ الْعِلْمِيِّينَ لِمِصْرَ فِي مَجَالِ الدِّرَاسَاتِ الْمُتَوَسِّطِيَّةِ وَحِفْظِ التُّرَاثِ. وَفِي سَنَةِ ١٩٥٩ أَسَّسَ الْبُرُوفِيسُور كَازِيمِيش مِيخَاوُوسْكِي – وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ الْآثَارِ وَالْمِصْرِيَّاتِ فِي الْعَالَم – «الْمَحَطَّةَ الْبُولَنْدِيَّةَ لِلْآثَارِ فِي الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّط» (PCMA) فِي الْقَاهِرَةِ، التَّابِعَةِ لِجَامِعَةِ وَارْسُو. وَشَكَّلَ هَذَا الْحَدَثُ تَتْوِيجًا لِعُقُودٍ مِنَ التَّوَاصُلِ الْعِلْمِيّ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي حَظِيَتْ بِهِ بُولَنْدَا فِي أَوْسَاطِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَسُرْعَانَ مَا اصْطَنَعَتْ PCMA مَكانَةَ مَرْكَزٍ دُولِيٍّ لِلْأَبْحَاثِ الْأَثَرِيَّةِ، وَشَمِلَتْ أَنْشِطَتُهَا عَدَدًا مِنْ أَهَمِّ الْمَوَاقِعِ الْأَثَرِيَّةِ فِي مِصْرَ، مِنْهَا:
• الدِّيرُ الْبَحْرِيّ – الْمَجْمُوعَةُ الْمَعْمَارِيَّةُ الضَّخْمَةُ لِمَعْبَدِ الْمَلِكَةِ حَتْشِبْسُوت، حَيْثُ بَدَأَ الْبُولَنْدِيُّونَ الْعَمَلَ مُنْذُ ١٩٦١، فَأَعَادُوا التَّخْطِيطَ الْمِعْمَارِيَّ وَرَمَّمُوا اللَّوْنِيَّاتِ.
• كُومُ الدِّكَّة فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة – مَوْقِعٌ مَدِينِيّ بُوشِرَ فِيهِ مُنْذُ ١٩٦٠ بِالدِّرَاسَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَسْرَحِ الرُّومَانِيّ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْمَدَافِنِ وَمَخَطَّطِ الْمَدِينَةِ.
• تِلُّ أَتْرِيب (أَثْرِيبِيسُ الْقَدِيمَة) – مَوْقِعُ اكْتِشَافِ الْخَزَفِ الْيُونَانِيّ الرُّومَانِيّ وَآثَارِ عِبَادَةِ إِيزِيس.
• دَنْدَرَة – هَيْكَلُ الْإِلَةِ حَاتُور، حَيْثُ أُجْرِيَتْ أَبْحَاثٌ تَوْثِيقِيَّةٌ وَنَقْشِيَّة.
• سَقَّارَة – الْمَدَافِنُ الْمَنْفِيَّةُ، الَّتِي دَرَسَ فِيهَا الْبُولَنْدِيُّونَ مَقَابِرَ كِبَارِ وُجَهَاءِ الدَّوْلَةِ الْقَدِيمَة.
وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْأَبْحَاثُ دَائِمًا بِتَعَاوُنٍ وَثِيقٍ مَعَ وَزَارَةِ الآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَنُشِرَتْ نَتَائِجُهَا بِصُورَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي الْمَنْشُورَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْبَلَدَيْنِ. وَتَحْفَظُ الْأَرْشِيفَاتُ صُوَرًا وَتَقَارِيرَ لِفِرَقٍ بُولَنْدِيَّةٍ مِصْرِيَّةٍ تُوَثِّقُ التَّعَاوُنَ الْيَوْمِيَّ بَيْنَ عُلَمَاءِ الآثَارِ وَالْمُهَنْدِسِينَ وَالرُّسَّامِينَ وَالْمُرَمِّمِينَ.
حَمْلَةُ النُّوبَة – جُهْدٌ مُشْتَرَكٌ لِحِمَايَةِ التُّرَاث
كَانَتْ حَمْلَةُ النُّوبَةِ، الَّتِي نُفِّذَتْ تَحْتَ رِعَايَةِ مُنَظَّمَةِ الْيُونِسْكُو بَيْنَ سَنَتَيْ ١٩٦٠ وَ١٩٧٠، مِنْ أَعْظَمِ إِنْجَازَاتِ PCMA وَمِنْ أَبْرَزِ رُمُوزِ التَّقْدِيرِ الدُّوَلِيّ لِلْعِلْمِ الْبُولَنْدِيّ. وَقَدْ هَدَفَتْ هَذِهِ الْحَمْلَةُ إِلَى إِنْقَاذِ آثَارِ النُّوبَةِ الْمُهَدَّدَةِ بِالْغَرَقِ فِي مِيَاهِ بُحَيْرَةِ نَاصِر بَعْدَ بِنَاءِ السَّدِّ الْعَالِي فِي أَسْوَان.
وَخِلَالَ هَذِهِ الْحَمْلَةِ اكْتَشَفَتِ الْبَعْثَةُ الَّتِي تَرَأَّسَهَا الْبُرُوفِيسُور مِيخَاوُوسْكِي كَاتِدْرَائِيَّةً فِي مَدِينَةِ فَرَس (بَاخُورَاس الْقَدِيمَة)، تَعُودُ لِلْقُرُونِ الثَّامِنِ إِلَى الرَّابِعِ عَشَر، وَتَمْتَازُ جُدْرَانُهَا بِلَوْحَاتٍ مَسِيحِيَّةٍ نَادِرَةٍ ذَاتِ قِيمَةٍ فَنِّيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ هَائِلَة. وَقَدْ نَفَّذَ الْمُرَمِّمُونَ الْبُولَنْدِيُّونَ، بِالتَّعَاوُنِ مَعَ الْخُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، عَمَلِيَّةً رَائِدَةً لِفَكِّ اللَّوْحَاتِ وَتَرْمِيمِهَا وَنَقْلِهَا. وَانْتَهَى الأَمْرُ بِنَقْلِ ٦٧ لَوْحَةٍ إِلَى الْمُتْحَفِ الْوَطَنِيّ فِي وَارْسُو، وَنَحْوِ ٥٠ لَوْحَةٍ إِلَى الْمُتْحَفِ الْقَوْمِيّ فِي الْخَرْطُوم، فِي وَاحِدٍ مِنْ أَكْبَرِ إِنْجَازَاتِ عِلْمِ الآثَارِ الإِنْقَاذِيّ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَم.
وَلَمْ تُعَزِّزْ حَمْلَةُ النُّوبَةِ مَكَانَةَ بُولَنْدَا فِي الْيُونِسْكُو فَحَسْب، بَلْ فَتَحَتْ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِنَ التَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ بَيْنَ الْقَاهِرَةِ وَوَارْسُو. فَقَدْ رَسَّخَتْ ثِقَةً مُتَبَادَلَةً تُرْجِمَتْ إِلَى مَشَارِيعَ مُشْتَرَكَةٍ جَدِيدَةٍ فِي التَّرْمِيمِ وَالْأَبْحَاثِ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَلُوكْسُور وَسَقَّارَة. وَفِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ نُظِّمَتْ أَيْضًا أَوَّلُ اتِّفَاقِيَّاتٍ طَوِيلَةِ الْمَدَى لِتَبَادُلِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُرَمِّمِينَ وَطُلَّابِ عِلْمِ الآثَار.
تَطَوُّرُ الْأَبْحَاثِ وَتَبَادُلُ الْكَوَادِرِ الْعِلْمِيَّة
مُنْذُ سِتِّينِيَّاتِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، أَصْبَحَتْ PCMA مَرْكَزَ التَّبَادُلِ الْعِلْمِيّ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ. فَقَدْ تَوَافَدَ كُلَّ عَامٍ إِلَى مِصْرَ عُلَمَاءُ آثَارٍ وَمُرَمِّمُونَ وَمِعْمَارِيُّونَ بُولَنْدِيُّونَ، وَفِي الْمُقَابِلِ تَلَقَّى الطُّلَّابُ الْمِصْرِيُّونَ فِي بُولَنْدَا تَعْلِيمًا مُتَخَصِّصًا فِي مَجَالَاتِ التَّرْمِيمِ وَالتَّارِيخِ وَالْهِنْدَسَةِ. وَقَدْ قَامَتْ جَامِعَاتُ وَارْسُو وَكْرَاكُوف وَفْرُوتْسْوَاف بِتَنْظِيمِ دَوْرَاتٍ لِغَوِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْبُولَنْدِيَّةِ وَتَدَارِيبَ أَثَرِيَّةٍ مُتَخَصِّصَةٍ.
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، نُظِّمَتْ فِي الْقَاهِرَةِ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَعَارِضُ وَسِمِينَارَاتٌ وَمُؤْتَمَرَاتٌ عِلْمِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، أَدَّتْ إِلَى تَقْرِيبِ الْأَوْسَاطِ الأَكَادِيمِيَّةِ فِي الْبَلَدَيْنِ. وَقَدْ شَارَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ – وَمِنْهُمْ بَاحِثُونَ مِنْ جَامِعَةِ الْقَاهِرَةِ وَجَامِعَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ – فِي مَشَارِيعِ PCMA كَمُشْرِفِينَ مُشْتَرَكِينَ عَلَى الْبَعَثَاتِ الْمَيْدَانِيَّةِ.
وَلَمْ يَقْتَصِرِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْآثَارِ فَقَطْ. فَقَدْ بَدَأَتْ بُولَنْدَا وَمِصْرُ بَرَامِجَ مُشْتَرَكَةً فِي مَجَالِ حِمَايَةِ التُّرَاثِ وَالتَّعْلِيمِ التِّقْنِيّ وَالصِّنَاعِيّ. وَشَارَكَ الْخُبَرَاءُ الْبُولَنْدِيُّونَ فِي دَوْرَاتٍ تُعْنَى بِتَرْمِيمِ الْحَجَرِ وَالأَصْبَاغ، فِيمَا أَمْضَى الْمِصْرِيُّونَ فَتَرَاتِ تَدْرِيبٍ فِي الْمُخْتَبَرَاتِ الْبُولَنْدِيَّةِ لِلتَّرْمِيم.
الْمَجَالَاتُ الْحَدِيثَةُ لِلتَّعَاوُن – الْعِلْمُ وَالتِّقْنِيَّةُ وَالتَّعْلِيم
بِالتَّوَازِي مَعَ الْعَمَلِ الْأَثَرِيّ، تَطَوَّرَتْ مَجَالَاتٌ أُخْرَى لِلتَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ وَالتِّقْنِيّ. فِي سِتِّينِيَّاتِ وَسَبْعِينِيَّاتِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، شَارَكَتْ بُولَنْدَا بِفَاعِلِيَّةٍ فِي تَحْدِيثِ الِاقْتِصَادِ الْمِصْرِيّ مِنْ خِلَالِ تَصْدِيرِ التِّقْنِيَّاتِ وَالْخِبْرَاتِ. فَقَدْ نَفَّذَتْ شَرِكَةُ CEKOP عُقُودًا لِبِنَاءِ الْمَصَانِعِ الصِّنَاعِيَّةِ وَالْكِيمْيَائِيَّة، وَوَفَّرَتْ Ursus آلَاتٍ زِرَاعِيَّةً وَجَرَّارَات، وَقَدَّمَتْ Autosan حَافِلَاتٍ مَدِينِيَّةً وَمَرْكَباتٍ لِلنَّقْلِ الْعَامّ فِي الْقَاهِرَةِ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة.
وَعَمِلَ الْمُهَنْدِسُونَ الْبُولَنْدِيُّونَ فِي تَطْوِيرِ مَوَانِئِ قَنَاةِ السُّوَيْس، وَنِظَامِ الْمِلَاحَةِ النَّهْرِيَّة، وَالْبِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ لِلطَّيَرَان. وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، ازْدَهَرَ التَّبَادُلُ التَّعْلِيمِيّ، إِذِ الدَّرَسَ مِئَاتُ الطُّلَّابِ الْمِصْرِيِّينَ فِي بُولَنْدَا – خُصُوصًا فِي التَّخَصُّصَاتِ التِّقْنِيَّةِ وَالْهَنْدَسِيَّةِ وَالطِّبِّيَّة – مِمَّا أَدَّى إِلَى تَكْوِينِ قَاعِدَةٍ دَائِمَةٍ مِنِ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمِهْنِيَّةِ.
وَعَلَى الْجَانِبِ الآخَر، أَجْرَى الْبَاحِثُونَ الْبُولَنْدِيُّونَ فِي مِصْرَ تَدَارِيبَ وَمَشَارِيعَ بَحْثِيَّةً فِي مَجَالَاتِ الْآثَارِ وَالْعِمَارَةِ وَحِفْظِ التُّرَاث.
٤. الْقَرْنُ الْحَادِي وَالْعِشْرُون: الْعِلْمُ الرَّقْمِيّ وَالتُّرَاثُ الْمُشْتَرَك
دَخَلَتِ الْعَلَاقَاتُ الْعِلْمِيَّةُ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مَرْحَلَةَ الِانْدِمَاجِ بَيْنَ التِّقْنِيَّاتِ الرَّقْمِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ بَيْنَ الثَّقَافِيّ وَحِمَايَةِ التُّرَاثِ فِي ظُرُوفِ التَّحَدِّيَاتِ الْعَالَمِيَّة. فَقَدْ تَوَسَّعَ التَّعَاوُنُ الَّذِي كَانَ يَقْتَصِرُ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ عَلَى الآثَارِ وَالتَّرْمِيمِ لِيَشْمَلَ مَجَالَاتٍ جَدِيدَةً، مِنْهَا الْإِنْسَانِيَّاتُ الرَّقْمِيَّةُ وَرَقْمَنَةُ الْأَبْحَاثِ وَإِدَارَةُ بَيَانَاتِ التُّرَاثِ وَأَمْنُ الْمَعْلُومَاتِ فِي قِطَاعِ الثَّقَافَة.
وَتَقَعُ فِي مَرْكَزِ هَذِهِ الْمُبَادَرَاتِ مَشْرُوعُ Polish–Egyptian Heritage Digital Hub الَّذِي أَطْلَقَتْهُ الْمَحَطَّةُ الْبُولَنْدِيَّةُ لِلْآثَارِ فِي الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّط (PCMA) التَّابِعَةُ لِجَامِعَةِ وَارْسُو بِالتَّعَاوُنِ مَعَ وَزَارَةِ الثَّقَافَةِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَيَهْدِفُ الْمَشْرُوعُ إِلَى رَقْمَنَةِ وَإِتَاحَةِ كُلِّ مَا جُمِعَ مِنْ وَثَائِقَ خِلَالَ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ عَامًا مِنْ أَعْمَالِ الْبَعَثَاتِ الْبُولَنْدِيَّةِ فِي مِصْرَ. وَيَعْمَلُ فَرِيقٌ بُولَنْدِيّ مِصْرِيّ مُشْتَرَك عَلَى إِنْشَاءِ أَرْشِيفٍ رَقْمِيّ يَضُمُّ آلَافَ الصُّوَرِ وَالرُّسُومِ وَالْمُخَطَّطَاتِ وَالْوَثَائِقِ لِلْمَوَاقِعِ الأَثَرِيَّةِ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى أَسْوَان. وَتَتَمَيَّزُ الْمِنَصَّةُ بِطَابِعِهَا الْمَفْتُوح، مِمَّا يُمَكِّنُ الْبَاحِثِينَ وَالطُّلَّابَ وَالْقَيِّمِينَ عَلَى الْمُتَحَفَاتِ مِنَ النُّفُوذِ الدَّوْلِيّ إِلَى نَتَائِجِ الْأَبْحَاثِ.
وَيُعَدُّ هَذَا الْمَشْرُوعُ نَمُوذَجًا مُتَقَدِّمًا لِلدِّبْلُومَاسِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ الْحَدِيثَةِ، حَيْثُ تُصْبِحُ التِّقْنِيَّةُ أَدَاةً لِحِمَايَةِ التُّرَاثِ الْمُشْتَرَك. فَبُولَنْدَا، بِمَا تَمْتَلِكُهُ مِنْ خِبْرَاتٍ وَاسِعَةٍ فِي رَقْمَنَةِ الْمَجْمُوعَاتِ الْمُتْحَفِيَّةِ وَمَادَّةِ التَّرْمِيمِ، تُسَاهِمُ بِمَعْرِفَتِهَا فِي الْأَرْشَفَةِ وَالتَّصْوِيرِ ثُلَاثِيِّ الْأَبْعَادِ، فِيمَا تُوَفِّرُ مِصْرُ الْمَوَادَّ الأَصْلِيَّةَ وَالْأَرْشِيفَاتِ الْمَيْدَانِيَّةَ وَالْبِنْيَةَ التَّحْتِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِمَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة.
وَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ إِنْشَاءُ أَوَّلِ نِظَامٍ مُشْتَرَك بُولَنْدِيّ مِصْرِيّ لِمَعْلُومَاتِ التُّرَاثِ الثَّقَافِيّ، لَا يُسَاهِمُ فَقَطْ فِي تَنْظِيمِ الْبَيَانَاتِ التَّارِيخِيَّةِ، بَلْ يُسَاعِدُ أَيْضًا فِي حِمَايَةِ الْمَوَاقِعِ الأَثَرِيَّةِ فِي ظُرُوفِ التَّهْدِيدَاتِ الْمُنَاخِيَّةِ وَالتَّحَضُّرِ الْمُتَسَارِع.
مَجَالَاتٌ جَدِيدَةٌ لِلتَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ وَالتِّقْنِيّ
حَمَلَ الْقَرْنُ الْحَادِي وَالْعِشْرُون مَعَهُ تَوَسُّعًا فِي مَجَالَاتِ التَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ. فَقَدْ شَارَكَتِ الْمَرَاكِزُ الْأَكَادِيمِيَّةُ وَالْهَنْدَسِيَّةُ الْبُولَنْدِيَّةُ مَعَ الْجَامِعَاتِ الْمِصْرِيَّةِ – جَامِعَةُ الْقَاهِرَةِ، جَامِعَةُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، مَكْتَبَةُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَالْمَتْحَفُ الْقَوْمِيّ لِلحَضَارَةِ الْمِصْرِيَّةِ – فِي بَرَامِجَ مُشْتَرَكَةٍ تَشْمَلُ أَبْحَاثَ تَرْمِيمِ التُّرَاثِ، نَمْذَجَةَ الْبَيَانَاتِ الْمَكَانِيَّةِ، إِدَارَةَ التُّرَاثِ فِي الْعَصْرِ الرَّقْمِيّ، وَتَحْلِيلَ الْمَوَادِّ الْأَثَرِيَّةِ بِاِسْتِخْدامِ الطُّرُقِ الْكِيمْيَائِيَّةِ وَالتَّصْوِيرِ الْفُوتُوغْرَامِتْرِيّ.
وَيُعَدُّ احْدَى أَهَمِّ مَسَارَاتِ هَذَا التَّطَوُّرِ إِعَادَةُ بِنَاءِ الْمَعَالِمِ التَّارِيخِيَّةِ رَقْمِيًّا وَالتَّعْلِيمُ الأَثَرِيّ الْوِرْتُوَالِيّ، الَّذَيْنِ يُسَاهِمَانِ فِي نَشْرِ الْمَعْرِفَةِ عَنْ مِصْرَ وَعَنْ دَوْرِ بُولَنْدَا فِي دِرَاسَتِهَا. وَتُشَارِكُ PCMA فِي مَشَارِيعَ لِإِنْشَاءِ خَرَائِطَ تَفَاعُلِيَّةٍ لِلْمَوَاقِعِ الأَثَرِيَّةِ وَنَمَاذِجَ ثُلَاثِيَّةِ الأَبْعَادِ لِلْمَعَالِمِ التَّارِيخِيَّةِ.
وَبِالتَّزَامُنِ، تُنَفَّذُ مَشَارِيعُ بَحْثِيَّةٌ فِي مَجَالِ الأَمْنِ السَّيْبَرَانِيّ فِي حِمَايَةِ التُّرَاثِ الثَّقَافِيّ، وَتَجْمَعُ هَذِهِ الْمَشَارِيعُ خُبَرَاءَ مِنْ بُولَنْدَا وَمِصْرَ. وَتَشْمَلُ الدَّوْرَاتُ وَالْوِرَشُ الْمُشْتَرَكَةُ – الْمُنَظَّمَةُ مَعَ مُنَظَّمَةِ الْيُونِسْكُو وَمَرْكَزِ ICCROM–ATHAR فِي الشَّارِقَة – قَضَايَا أَمْنِ الْمُؤَسَّسَاتِ الثَّقَافِيَّةِ الرَّقْمِيّ، وَحِمَايَةَ قَوَاعِدِ بَيَانَاتِ الآثَارِ، وَالتَّصَدِّي لِلهَجَمَاتِ السَّيْبَرَانِيَّةِ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ قِطَاعَ الثَّقَافَة.
وَيَتَقَاسَمُ الْمُخْتَصُّونَ الْبُولَنْدِيُّونَ خِبْرَتَهُمْ فِي مَجَالِ الْمَعْلُومَاتِيَّةِ الْجِنَائِيَّةِ وَحِمَايَةِ الْبِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ الْحَرِجَةِ، فِيمَا يُسَاهِمُ الشُّرَكَاءُ الْمِصْرِيُّونَ بِمَعْرِفَةٍ عَمَلِيَّةٍ فِي حِمَايَةِ الْبَيَانَاتِ دَاخِلَ الْمُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْكَبِيرَة.
التَّعْلِيمُ وَالْمُجْتَمَعُ وَإِنْسَانِيَّاتُ التَّعَاوُن
تَشْمَلُ الشَّرَاكَةُ الْأَكَادِيمِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ الْيَوْمَ بُعْدًا مُجْتَمَعِيًّا مُهِمًّا. فَبِنَاءً عَلَى الِاتِّفَاقِيَّاتِ بَيْنَ الْحُكُومَتَيْنِ وَالْبَرَامِجِ الْجَامِعِيَّةِ الشَّرِيكَةِ، تُنَفَّذُ دِرَاسَاتٌ عُلْيَا مُشْتَرَكَةٌ، وَتَبَادُلَاتٌ طُلَّابِيَّةٌ، وَتَدَارِيبُ بَحْثِيَّةٌ فِي مَجَالَاتِ الآثَارِ وَتَارِيخِ الْفُنُونِ وَالتَّرْمِيمِ، وَلَكِنْ أَيْضًا فِي الصِّحَافَةِ وَالْعُلُومِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَيُجْرِي الْبَاحِثُونَ الْبُولَنْدِيُّونَ وَالْمِصْرِيُّونَ مَشَارِيعَ تَتَعَلَّقُ بِالتُّرَاثِ غَيْرِ الْمَادِّيّ، وَالذَّاكِرَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْهُوِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ، بِاسْتِخْدامِ أَدَوَاتٍ رَقْمِيَّةٍ وَأَبْحَاثٍ مَيْدَانِيَّةٍ.
وَتُوَاصِلُ الطَّرَفَانِ تَنْفِيذَ مَشَارِيعَ مُشْتَرَكَةٍ لِحِمَايَةِ التُّرَاثِ فِي ظُرُوفِ الأَزْمَاتِ، مِنْهَا الدَّوْرَاتُ التَّدْرِيبِيَّةُ الَّتِي تُنَظِّمُهَا PCMA وَالْمَرْكَزُ الْقَوْمِيّ لِلثَّقَافَةِ فِي بُولَنْدَا وَوِزَارَةُ الثَّقَافَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالَّتِي تَرْكِزُ عَلَى حِمَايَةِ الْمَعَالِمِ التَّارِيخِيَّةِ فِي ظُرُوفِ النِّزَاعَاتِ الْمُسَلَّحَةِ وَالْكَوارِثِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالتَّغَيُّرَاتِ الْمُنَاخِيَّةِ. وَيُشَارِكُ فِيهَا مُرَمِّمُونَ وَعُلَمَاءُ آثَارٍ وَمُخْتَصُّونَ فِي تِقْنِيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ وَعَامِلُونَ فِي خَدَمَاتِ الطَّوَارِئ.
وَخِتَامًا، يَجْدُرُ التَّأْكِيدُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ التَّعَاوُنِ الْعِلْمِيّ بَيْنَ بُولَنْدَا وَمِصْرَ قَدْ شَكَّلَتْ «جَمَاعَةَ مَعْرِفَةٍ» فَرِيدَةً. فَمِنْ رُهْبَانِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَر وَمُهَنْدِسِي الْحَمْلَةِ النَّابِلْيُونِيَّةِ، إِلَى الطَّبِيعِيِّينَ وَعُلَمَاءِ الْمِصْرِيَّاتِ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَر، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى عُلَمَاءِ الْآثَارِ وَالْمُخْتَصِّينَ فِي التِّقْنِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، أَثْبَتَتِ الْأَجْيَالُ الْمُتَعَاقِبَةُ أَنَّ الْعِلْمَ قَادِرٌ عَلَى تَجَاوُزِ حُدُودِ السِّيَاسَةِ وَاللُّغَةِ.
وَيَبْقَى إِرْثُ هَذَا التَّعَاوُنِ حَيًّا: فَالْمَحَطَّةُ الْبُولَنْدِيَّةُ لِلْآثَارِ فِي الْقَاهِرَةِ، وَالْمَشَارِيعُ الرَّقْمِيَّةُ مَعَ مَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، تَعْكِسُ أَنَّ الْجُسُورَ الْمَمْتَدَّةَ بَيْنَ النِّيلِ وَالْوِيسْلَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالثِّقَةِ وَالشَّغَفِ الْمُشْتَرَكِ بِاكْتِشَافِ الْعَالَم.