
إن التجارب الإيجابية للتعاون البولندي اللبناني حتى الآن تعد مؤشراً جيداً للمستقبل. يجب تعميق مجالات التعاون الحالية، مثل المساعدات الإنسانية والإنمائية والأمن، ويجب توسيع هذا التعاون ليشمل مجالات جديدة. تستطيع بولندا، بصفتها رائدة في أوروبا الوسطى والشرقية، أن تقدم الكثير للبنان على مستويات متعددة. تعد بولندا حالياً الاقتصاد العشرين عالمياً، وهذا نتيجة للتحول السياسي والاقتصادي الناجح الذي مرت به. بفضل التنمية الديناميكية التي شهدتها في العقدين الماضيين، أصبحت بولندا دولة محورية في الاتحاد الأوروبي، وتتمتع ببنية تحتية حديثة للطرق والسكك الحديدية، وتشتهر بأنها واحدة من أكثر الدول أماناً في أوروبا، وتجذب المستثمرين من جميع أنحاء العالم. لقد مرت المدن البولندية، بما في ذلك مدن الأقاليم، بتحول جذري، حيث تم تجديد المنازل والطرق والمباني العامة. كما يزدهر قطاع المنظمات غير الحكومية، مما يدل على وجود مجتمع مدني متطور. يحتاج لبنان إلى إصلاحات مماثلة، وبولندا تستطيع مساعدته في ذلك، خاصة وأن لديها تجارب مماثلة من الاحتلال الأجنبي والنضال من أجل السيادة والديمقراطية. لهذا السبب، تعتبر بولندا، التي ليس لديها أي أعباء استعمارية، شريكاً مثالياً للبنان سواء في بعد التعاون العلمي والمدني أو في مجال الأمن والتنمية الاقتصادية.
التحول الدستوري والتعاون العلمي والأكاديمي
يحتاج لبنان إلى إصلاحات مماثلة لتلك التي نجحت بولندا في تطبيقها في إطار تحولها الدستوري. صحيح أن لبنان يمتلك مؤسسات دولة ديمقراطية، وتُجرى فيه انتخابات، ولا يوجد فيه نظام استبدادي كالذي كان قائماً في بولندا قبل عام 1989، إلا أن الضرورة تقتضي تعزيز الوعي المدني، والتماسك الوطني، والسيادة، والحكم الرشيد، بالإضافة إلى تعزيز مؤسسات الدولة ومكافحة الفساد. تمتلك بولندا خبرة واسعة في هذا المجال يمكنها مشاركتها. ويشمل ذلك كلاً من التحسين المؤسسي للأجهزة المسؤولة عن مكافحة الفساد، والجريمة المنظمة، والرقابة المصرفية، والقضاء، وكذلك التعاون بين منظمات القطاع غير الحكومي، بما في ذلك تلك العاملة في مجال الحوكمة الرشيدة، والمجتمع المدني، والتعليم الرقمي، ومكافحة التضليل (Disinformation)، ومراقبة الانتخابات، وحرية الإعلام. في هذا الصدد، من الضروري تكثيف التعاون على مستوى الخبراء، وورش العمل والتدريبات المشتركة، فضلاً عن تنظيم المؤتمرات والمشاركة فيها (على سبيل المثال، مشاركة الخبراء والسياسيين اللبنانيين في منتدى وارسو للأمن الذي تنظمه مؤسسة كازيميرز بولاسكي). ويمكن أن تكون بوابة “شفافية” (Shaffafiya) إحدى منصات التعاون، كمنصة لتبادل الآراء والتحليلات بين الخبراء البولنديين واللبنانيين، وكذلك من دول أخرى في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط.
يجب أن يواكب التعاون على مستوى الخبراء والمؤسسات تكثيف العلاقات الأكاديمية وتطوير المشاريع البحثية المشتركة. في هذا الصدد، يمكن لبولندا أن تقدم للطلاب اللبنانيين ظروفاً جذابة للدراسة في الجامعات البولندية باستخدام أدوات مثل برنامج إيراسموس بلاس (Erasmus+)، وبرنامج منحة إيغناتسي ووكاشيفيتش (Ignacy Łukasiewicz) لطلاب التخصصات الهندسية، وبرنامج منحة ستيفان باناخ (Stefan Banach) لطلاب التخصصات الطبية. كل هذه الأدوات متاحة بالفعل للطلاب اللبنانيين. ومن المستحسن أيضاً تحفيز تنقل أعضاء هيئة التدريس بين لبنان وبولندا، مما سيشجع كذلك على تطوير مشاريع بحثية مشتركة ومنشورات علمية. علاوة على ذلك، يمكن للمتخصصين البولنديين، ولا سيما علماء الآثار، أن يلعبوا دوراً هاماً في حماية الآثار في لبنان. وفي هذا الصدد، تقدم بولندا للبنان خبرة فريدة في مجال ترميم الآثار، وهو أمر بالغ الأهمية للسياحة اللبنانية.
البنية التحتية والمواصلات
تتمتع بولندا بخبرة هائلة وحديثة في تطوير وتحديث البنية التحتية للسكك الحديدية والنقل العام (المترو وشبكات الحافلات والترام). في المقابل، يواجه لبنان مشاكل الازدحام المروري، وغياب السكك الحديدية، وضعف نظام النقل العام وعدم تكامله. خط السكة الحديد اللبناني القديم معطل منذ فترة طويلة، على الرغم من أن إعادة بنائه ضرورة ملحة. تقتصر خدمة الربط بين المدن على سيارات الأجرة والحافلات الصغيرة فقط، وهي أيضاً الوسيلة الوحيدة للنقل الجماعي في بيروت المزدحمة بالمرور باستمرار. تمتلك بولندا كلاً من المعرفة المتخصصة (know-how) في تخطيط النقل الحضري، والقدرات والخبرة في بناء الأسطول والبنية التحتية للمواصلات.
لذلك، يمكن لبولندا أن تلعب دوراً رئيسياً في إصلاح نظام النقل في بيروت، بما في ذلك تصميم شبكة الترام والمترو. يمكن أن تكون خبرة شركة ميتروبروجيكت (Metroprojekt)، التي كانت المصمم الرئيسي لمترو وارسو، حاسمة لأنها حديثة، كما أنها مرتبطة بظروف معقدة تحت الأرض وتنفيذ مشاريع في مناطق ذات كثافة عمرانية عالية وحركة مرور كثيفة. هذا بالضبط ما تحتاجه بيروت. يمكن لبولندا أيضاً تقديم الاستشارات في إنشاء هيئات حديثة لإدارة النقل العام تكون مسؤولة عن تكامل التعرفة والجداول الزمنية (للحافلات، الترام، المترو). يمكن أن يشمل العرض أيضاً تدريب المهندسين والمخططين على تحسين شبكة النقل وتطبيق أنظمة معلومات الركاب (اللوحات، التطبيقات)، بالإضافة إلى إطلاق برامج تبادل الطلاب والمهندسين من جامعة وارسو للتكنولوجيا وجامعة كراكوف للتكنولوجيا، لتدريب المتخصصين المحليين في بناء المترو، والأنفاق، وإدارة حركة المرور.
يمكن لبولندا أيضاً تقديم عرض واسع النطاق لتوريد أسطول حديث يتميز بأسعار تنافسية ومصمم خصيصاً للظروف الصعبة. بولندا قوة عظمى في هذا المجال. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، حافلات سولاريس (Solaris)، وهي شركة رائدة في إنتاج الحافلات الحضرية في أوروبا، وقد أدخلت حافلات ذات أرضية منخفضة في مدن بولندا وأوروبا. تعتبر سولاريس أيضاً رائدة في قطاع الحافلات الكهربائية وحافلات الهيدروجين، بما يتماشى مع الاتجاهات العالمية. يشمل العرض البولندي للحافلات كلاً من الحافلات الحضرية وحافلات ما بين المدن، ومن بين المنتجين الآخرين أيضاً أوتوسان (Autosan) ونيسوباص (NesoBus). تقدم الأولى، بالإضافة إلى الحافلات الحضرية، حافلات متوسطة الحجم بين المدن، وهي مثالية للمسارات القصيرة. في المقابل، تقدم نيسوباص حافلات هيدروجينية حديثة.
يجب على بيروت أيضاً التفكير في إدخال الترام في شوارعها، وبولندا لديها أيضاً في هذه الحالة خبرة حديثة وغنية. بعد فترة من إزالة خطوط الترام، كجزء من اتجاه خاطئ في نهاية القرن العشرين، بدأت بولندا في السنوات الأخيرة في تطوير وتحديث خطوط الترام بشكل حيوي. يبلغ إجمالي طولها حالياً في بولندا أكثر من 2400 كم، وتعد شبكات الترام في وارسو وتكتل كاتوفيتشي من الأكبر والأحدث في أوروبا. يمكن للشركات البولندية مودرترانس (Modertrans) وبيسا (Pesa) أن تقدم أحدث أساطيل الترام، والتي يمكن رؤيتها الآن في العديد من المدن الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا ورومانيا وبلغاريا والمجر وأوكرانيا وإستونيا وسلوفاكيا. تتمتع الشركات البولندية أيضاً بخبرة واسعة في بناء مسارات الترام والبنية التحتية المصاحبة، ونفذت عقوداً في هذا المجال في ألمانيا وليتوانيا وسلوفاكيا ولاتفيا وغيرها.
كما تتمتع بولندا بخبرة هائلة في تحديث خطوط السكك الحديدية وقدرات في إنتاج أسطول السكك الحديدية وبناء البنية التحتية، بما في ذلك الجر والمسارات، بالإضافة إلى محطات القطار الحديثة. على مدى السنوات العشر الماضية، خصصت بولندا حوالي 25 مليار دولار أمريكي لتحديث حوالي 9 آلاف كيلومتر من المسارات، وكانت النتيجة تقصير وقت السفر، على سبيل المثال، تم اختصار رحلة 320 كيلومتراً من غدانسك إلى وارسو من 3.5 ساعة إلى 2.5 ساعة. ومن المتوقع أن تؤدي المراحل التالية من التحديث، المرتبطة بمشروع السكك الحديدية عالية السرعة، إلى تقصير مسار 350 كيلومتراً من وارسو إلى فروتسواف إلى 96 دقيقة، على سبيل المثال. شركتان بولنديتان، بيسا (Pesa) ونيواغ (Newag)، هما عملاقان في سوق إنتاج أسطول السكك الحديدية وتقومان بتوسيع نطاقهما بشكل متزايد في الأسواق الخارجية. تنتج شركة بيسا ومقرها بيدغوشتش، من بين أمور أخرى، قطارات بيسا دارت (Pesa Dart) الأنيقة لمسافات طويلة، والتي غالباً ما يطلق عليها اسم “بندولينو البولندي”، بالإضافة إلى قطارات إلف (Elf) (وحدات السكك الحديدية الكهربائية) والتي تحظى بشعبية في النقل الإقليمي. بيسا هي الرائدة في تكنولوجيا الهيدروجين في هذا الجزء من أوروبا، حيث تنتج قاطرة هيدروجينية (SM42-6Dn). قامت بيسا بتوريد قطارات “لينك” لشركة دويتشه بان (Deutsche Bahn) الألمانية، وفازت أيضاً بعقود ضخمة في رومانيا (لأكثر من 60 قطاراً) وفي جمهورية التشيك. في المقابل، تركز نيواغ (Newag)، ومقرها نوي سونتس، على الموثوقية والهندسة والتوافر العالي للأسطول. بنت الشركة على مر السنين مكانتها كشركة رائدة في قطاع القاطرات الكهربائية. من بين منتجاتها الرئيسية: قطارات إمبولس (Impuls) الإقليمية؛ وقاطرة الشحن الثقيلة ذات المحاور الستة دراغون (Dragon) – وهي منجز بولندي للتصدير والتقنية، مثالية لسحب القطارات الثقيلة المحملة بالفحم أو الركام؛ وقاطرة الركاب السريعة غريفين (Griffin) (تطور 200 كم/ساعة).
نفذت شركات البناء البولندية في السنوات الأخيرة أيضاً العديد من الطلبات المتعلقة بمد المسارات وإنشاء شبكات الجر، سواء في بولندا أو في الخارج. على سبيل المثال، تنشط شركة ZUE S.A. ومقرها كراكوف في السوق الألمانية (دويتشه بان) والسلوفاكية، وتنشط شركة Trakcja S.A. جداً في ليتوانيا، حيث تنفذ عقوداً ضخمة كجزء من مشروع رايل بالتيكا (Rail Baltica) (بناء خطوط سكك حديدية جديدة ستربط بولندا بدول البلطيق في المستقبل). وفي الوقت نفسه، فازت شركة البناء البولندية العملاقة بوديميكس (Budimex) بعقد مرموق لبناء جزء من رايل بالتيكا في لاتفيا/إستونيا. تدخل هذه الشركة بقوة متزايدة أيضاً الأسواق التشيكية والسلوفاكية والألمانية، مستهدفة مشاريع البنية التحتية الكبيرة. في المقابل، يمكن لمجموعة الصناعات الدفاعية البولندية (PGZ)، بصفتها مالك H. Cegielski – FPS، توريد عربات السكك الحديدية.
الأمن والتكنولوجيا
تساهم بولندا منذ فترة طويلة في أمن لبنان من خلال نشر وحدتها العسكرية في إطار مهمة اليونيفيل (UNIFIL). وهذا يخلق فرصة لتعميق التعاون وبدء تدريب الجيش، وقوات الشرطة، وحرس الحدود. يمكن لبولندا أن تقدم للبنان عرضاً مبنياً على خبرتها في حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وقطاع تقنيات الدفاع الحديثة المتطور بشكل حيوي. قد يكون التعاون في هذه القطاعات حاسماً لاستقرار لبنان. نظراً لحدوده الطويلة والمسامية مع سوريا ومشكلة الهجرة غير الشرعية والتهريب، يحتاج لبنان إلى أنظمة متكاملة للمراقبة الحدودية (ZSN). يمكن لبولندا أن تعرض تنفيذ نظام مراقبة حدودي حديث ومتعدد الطبقات، يتكون من كاميرات حرارية وكاميرات بصرية إلكترونية، بالإضافة إلى رادارات أرضية. يمكن لبولندا أيضاً تقديم تدريبات متخصصة لخدمات الحدود اللبنانية في: تقنيات الدوريات، واستخدام المعدات الحديثة، وإدارة الأزمات في حالة ضغط هجرة كبير. وقد بدأت بالفعل المحادثات بشأن دعم بولندا لـ “لجنة مراقبة الحدود” (Border Control Committee) اللبنانية، حيث جرت مناقشات حول هذا الموضوع في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025 بين سفيرة جمهورية بولندا ألكسندرا بوكوفسكا مكابي (Aleksandra Bukowska McCabe) والعميد إلياس عاد (Elias Aad).
يمكن لبولندا أيضاً أن تعرض توريد الطائرات بدون طيار (UAVs). تعد الصناعة العسكرية البولندية رائدة في إنتاج أنظمة خفيفة وتكتيكية بدون طيار، وهي مثالية لمهام الاستطلاع والدوريات في التضاريس اللبنانية الصعبة والجبلية. يمكن أن يشمل العرض توريد أنظمة استطلاع تكتيكية صغيرة وذات مدى قريب (مثل طائرات فلاي آي FlyEye)، والتي يمكن أن يستخدمها الجيش اللبناني لمراقبة “الخط الأزرق” والمناطق على طول الحدود السورية، بالإضافة إلى فحص البنية التحتية والمناطق الحرجية (على سبيل المثال، للكشف عن الحرائق). علاوة على ذلك، يمكن لبولندا أن تعرض أيضاً توريد طائرات بدون طيار للدوريات البحرية، قادرة على الإقلاع من وحدات الدوريات لمراقبة الساحل اللبناني والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وهو أمر بالغ الأهمية لمكافحة التهريب والصيد غير القانوني. يمكن أن يشمل العرض أيضاً تدريباً شاملاً للمشغلين والفنيين على التشغيل، والصيانة، واستخدام البيانات التي يتم جمعها بواسطة الطائرات بدون طيار.
لبنان، ببنيته التحتية المدمرة وقطاعه المصرفي غير المستقر، معرض بشكل خاص للهجمات السيبرانية. في هذا الصدد، يمكن لبولندا أن تقدم دعماً مؤسسياً وتكنولوجياً، بما في ذلك نقل المعرفة المتخصصة والمساعدة في إنشاء وتنظيم “الفريق اللبناني للاستجابة لحوادث الحاسوب” (CERT/CSIRT) – على غرار هياكل مثل CERT Polska. يمكن أن يشمل العرض أيضاً تدريباً لأفراد القوات المسلحة اللبنانية (LAF) والمسؤولين الحكوميين على النظافة السيبرانية الأساسية، فضلاً عن تقنيات الدفاع المتقدمة ضد هجمات التهديد المستمر المتقدم (APT – Advanced Persistent Threat). يمكن لبولندا أيضاً توفير حلول وبرامج لمراقبة وتأمين القطاعات الحيوية للدولة: الطاقة، والاتصالات، والقطاع المالي، والتي تعتبر حالياً شديدة الحساسية في لبنان.