القبعات الزرقاء البولندية والمساعدات الإنسانية في لبنان

يُرتبط انخراط بولندا في أمن لبنان اليوم أساسًا بوجود الكتيبة العسكرية البولندية ضمن قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، وبالبرامج الإنسانية التي تنفذها المنظمات الإغاثية البولندية. غير أن العلاقات بين البلدين تعود إلى زمنٍ لم يكن فيه أيٌّ منهما دولةً مستقلة. ففي أوائل القرن العشرين، أصبح فلاديسواف تشايكوفسكي، المعروف باسم مظفر باشا، حاكمًا للبنان ضمن الدولة العثمانية، وشغل هذا المنصب من عام 1902 حتى وفاته عام 1907. وفي وقتٍ لاحق، خلال الحرب العالمية الثانية، مرّ الجيش البولندي بقيادة الجنرال فلاديسواف أندرس عبر لبنان بعد إجلائه من الاتحاد السوفيتي في طريقه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية. وقد رافق الجيش عدد من اللاجئين القادمين من الاتحاد السوفيتي الذين وجدوا في لبنان ملاذًا خلال الحرب. في عام 1992، التزمت بولندا بالمساهمة في حفظ أمن لبنان من خلال إرسال كتيبة عسكرية بولندية للمشاركة في بعثة اليونيفيل. وبلغت مساهمة بولندا ذروتها عام 2000، إذ بلغ عدد أفرادها 629 جنديًا وعسكريًا مدنيًا، ما جعلها من بين أبرز الدول المشاركة. في المرحلة الأولى، ركّز الجنود البولنديون على المهام اللوجستية والهندسية والطبية لدعم قوات الأمم المتحدة الأخرى. ولعبت الوحدة الطبية العسكرية البولندية (PolMedCoy) دورًا محوريًا، إذ أنشأت مستشفىً ميدانيًا في الناقورة. وفي عام 1994 أُضيفت كتيبة لوجستية ووحدات هندسية، تلاها عام 1996 فريقٌ مختص بالصيانة. وشملت مهامهم النقل، وتخزين الإمدادات، وصيانة المعدات وإصلاحها، إضافة إلى إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة. تعرّض جنود القبعات الزرقاء البولنديون لإطلاق النار أكثر من مرة. وكانت اللحظات الأولى الصعبة في أبريل 1996 عندما شنّت إسرائيل هجومًا واسعًا على لبنان، إذ قصفت مرارًا مواقع تابعة لليونيفيل كان فيها مهندسون وأطباء ولوجستيون بولنديون. وقدّم الأطباء البولنديون المساعدة الطبية للمدنيين ولجنود الأمم المتحدة، بما في ذلك في محيط قاعدة جُويا التي شهدت اشتباكات عنيفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كما تعرّض الجنود البولنديون لإطلاق النار أثناء تأمين طريقٍ للاجئين. وفي عام 2006، خلال حرب يوليو، تولّت الوحدات البولندية إجلاء السكان من المناطق الخطرة، ونقل الجرحى إلى المستشفيات، وتوزيع الغذاء والدواء على المتضررين، وكان عددهم آنذاك نحو 230 شخصًا. بعد انقطاعٍ لعدة سنوات، عاد جنود القبعات الزرقاء البولنديون إلى لبنان عام 2019، ويبلغ عددهم حاليًا نحو 250 جنديًا. وهم يقومون بدورياتٍ على الخط الأزرق على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، لمراقبة وقف إطلاق النار والحفاظ على الأمن في منطقة الفصل. ومن أهم أهداف المهمة حماية المدنيين في مناطق العمليات. وفي إطار التعاون المدني-العسكري، يقدّمون المساعدة للسكان المحليين ويدعمون القوات المسلحة اللبنانية. وقد برزت أهمية مهمتهم مجددًا خلال الاجتياح الإسرائيلي في أكتوبر ونوفمبر 2024، عندما تعرّضت مواقع القبعات الزرقاء التي تحمي المدنيين للقصف الإسرائيلي. وخلال فترة الخدمة البولندية في لبنان، فقدت بولندا سبعة جنود هناك. المساعدات الإنسانية في لبنانجلبت الانتفاضات العربية (الربيع العربي) تحدياتٍ أمنية جديدة للبنان. فقد شكّل تدفّق أكثر من مليون لاجئ سوري عبئًا هائلًا على البلاد، وكانت المساعدات الدولية ضرورية. ولم تتخلَّ المنظمات البولندية مثل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) والعمل الإنساني البولندي (PAH) وفروع كاريتاس بولونيا وعون الكنيسة المتألمة عن لبنان، بل شاركت في تقديم المساعدات واكتسبت سمعةً بأنها من أكثر المنظمات مهنيةً وفعاليةً وحيادًا. وقد نالت سياسة هذه المنظمات، القائمة على تقديم المساعدات بشكلٍ يعود بالنفع على كلٍّ من اللاجئين السوريين والمجتمعات اللبنانية المضيفة، تقديرًا واسعًا. يعمل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) في لبنان باستمرار منذ عام 2012، ويركّز نشاطه في منطقة عكار شمال البلاد. بدأ عمله عبر برنامج «النقد مقابل السكن» الذي يقوم بدفع إيجارات مساكن اللاجئين السوريين مباشرةً إلى أصحاب العقارات اللبنانيين. ولاحقًا بدأ بدعم ترميم المنازل المتضررة وبناء منازل جديدة لكلٍّ من السوريين والعائلات اللبنانية الفقيرة. ومن برامجه الأخرى «النقد مقابل العمل» الذي يوفّر فرص عملٍ مؤقتة لكلٍّ من اللاجئين والمواطنين اللبنانيين في أعمال البناء والصيانة الصغيرة داخل البلديات. وشارك لبنانيون وسوريون في هذه المشاريع المموّلة من PCPM بالعمل مع علماء آثار بولنديين في أبحاثٍ ميدانية، من بينها قلعة بيريه، مما خلق فوائد إنسانية وعلمية متبادلة. كما يدير PCPM في بلدة بيريه عيادة ثابتة ومتنقلة منذ أكثر من عقد. وتقدّم العيادة خدمات طبية تشمل رعاية الأطفال والنساء، وتوفّر الأدوية التي يصعب الحصول عليها محليًا. وفي عام 2017، قال الشيخ محمد عوض مُرحب من بيريه في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء البولندية: «بعد عام 2012 تواصلنا مع منظماتٍ كثيرة من دولٍ مختلفة جاءت لمساعدة اللاجئين. أنفقت معظمها أموالًا طائلة دون نتائج حقيقية أو دائمة. كان الأمر مختلفًا تمامًا مع PCPM، فهي منظمة تعرف كيف تساعد. كنا نعرف بولندا من كتب التاريخ فقط، أنها بلد غزته ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أما الآن فبولندا تُعرف هنا بالمساعدات الإنسانية، لأنكم تؤدّون هذا العمل أفضل من الألمان أو الفرنسيين أو البريطانيين». أما العمل الإنساني البولندي (PAH)، فقد نشط لسنواتٍ عديدة في لبنان وركّز على مشاريع التنمية طويلة الأمد. فهو يدعم المجتمعات المحلية، وخاصة الشباب والنساء، في تحسين فرصهم في التعليم والعمل، ويُنفّذ مبادراتٍ تهدف إلى زيادة المهارات والاستقلالية في سوق العمل. كما ينفّذ أنشطةً لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال وأسرهم، خصوصًا في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اللاجئون.وتشارك كاريتاس بولونيا أيضًا في تقديم المساعدات، ولا سيما في حالات الأزمات الطارئة التي لا تخلو منها البلاد. الاستجابة للأزماتمن أبرز الأزمات التي واجهتها المنظمات البولندية انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، الذي وقع بعد أشهرٍ قليلة من الانهيار المالي الذي دمّر حياة كثيرٍ من العائلات اللبنانية. وكان من بين المناطق المتضررة حي برج حمود الأرمني في بيروت. وقال أحد ممثلي السلطات المحلية بعد سنوات: «ظهرت منظمات كثيرة آنذاك، لكن لم يكن جميعها يقدّم المساعدة الحقيقية؛ فبعضها استفاد ماديًا من الكارثة. أما PCPM فكان الوضع مختلفًا تمامًا، فقد أظهرت احترافًا مطلقًا، ووصلت المساعدات إلى من يستحقها فعلًا». كما دعم PCPM المستشفيات المحلية في بيروت بالمعدات الطبية ووسائل الحماية الشخصية، ووسّع برنامج «النقد مقابل العمل» ليشمل العاصمة اللبنانية. وشارك رجال الإطفاء البولنديون العاملون مع PCPM في جهود الإنقاذ في برج حمود. كذلك انضمت العمل الإنساني البولندي (PAH) بسرعة إلى جهود الإغاثة، مطلقةً حملة تبرعات خصصت عائداتها لمساعدة المتضررين. وركّزت في المرحلة الأولى على تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء ومستلزمات النظافة، وفي المرحلة التالية على ترميم المباني المتضررة والمساعدة في إعادة الحياة المجتمعية. أما كاريتاس فقد نظّمت المساعدات على شكل طرود غذائية ومياه ومنتجات نظافة ودعم مالي للفئات الأكثر فقرًا، وأسهمت في توفير المأوى المؤقت والرعاية النفسية والاجتماعية، كما موّلت شراء الأدوية والمستلزمات الطبية للضحايا. ومن الأزمات الأخرى التي شكّلت تحديًا للمنظمات البولندية في لبنان العدوان الإسرائيلي على لبنان في أكتوبر ونوفمبر 2024، حيث قدّمت منظمات PCPM وPAH وكاريتاس المساعدة للاجئين من جنوب لبنان بتوفير الإسعافات الأولية والمأوى والغذاء والمياه النظيفة ومستلزمات
الروابط الثقافية بين بولندا والعراق: المتنبي على نهر الفيستولا، وكوخانوفسكي على نهر دجلة

يُعدّ ترجمة الشعر البولندي إلى العربية تحديًا كبيرًا، تمامًا كما هو الحال في ترجمة الشعر العربي إلى البولندية. فالمطلوب ليس فقط الحفاظ على معنى الكلمات، بل أيضًا على الرسالة الكامنة فيها، والأهم من ذلك إيقاع القصيدة وموسيقاها الداخلية. لكن التحديات وُجدت لتُواجه. هذا ما فعله الشاعر العراقي البارز حاتف الجنابي، المقيم في بولندا منذ نصف قرن. ففي مارس 2021 أصدر من دار المدى للنشر في بغداد–بيروت عملًا ضخمًا بعنوان «خمسة قرون من الشعر البولندي من كوخانوفسكي حتى عام 2020». وعلى امتداد 912 صفحة جمع أكثر من 400 قصيدة لـ65 شاعرًا وشاعرة بولنديين بترتيبٍ زمني. وكان الجنابي قد ترجم سابقًا أعمال كُتّابٍ وشعراء مثل آدم ميكيفيتش، تشيسواف ميووش، فيسوافا شيمبورسكا، يوليوش سواڤاتسكي، زبيغنيف هربرت، تاديوش روزيفيتش، ستانيسواف لِم، ستانيسواف غروخوڤياك، آدم زاغايڤسكي، إدوارد ستاخورا، رافاو ڤوياشِك، ريشارد كابوشينسكي، أولغا توكارتشوك، وليشِك كواكوفسكي. من المعروف منذ زمنٍ بعيد مدى حبّ العراقيين للأدب. ويقول المثل العربي القديم: في القاهرة يُكتب، وفي بيروت يُطبع، وفي بغداد يُقرأ. وعلى ضفاف دجلة وُلدت أعمال عمالقة الأدب العربي مثل المتنبي وأبي نواس. عاش المتنبي في زمنٍ لم تكن فيه على نهر الفيستولا بعدُ أعمال أدبية، وكانت بولندا ما تزال تتأسس في عهد أول حكّامها المسيحيين، ميزكو الأول. بعد نحو تسعمئة عام، أُعجب شاعر بولندا الأعظم آدم ميكيفيتش بجمال شعر المتنبي—الذي وصل إليه غالبًا عبر الترجمات الفرنسية—فكتب قصيدته «المتنبي» المستوحاة من إحدى قصائده. لم تكن القصيدة ترجمةً حرفية بل كانت إعادة صياغة بارعة وتماهٍ مع موقف الشاعر العربي—الكبرياء والشجاعة البدوية—وهو ما انسجم تمامًا مع روح الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر. يعرف الجميع في بولندا قصص «ألف ليلة وليلة»، وإن لم يدرك الجميع صلتها الوثيقة بالعراق. وقد عمل مستعربون بولنديون بارزون مثل الأستاذ يوسِف بيلاڤسكي، مؤلف كتاب الأدب العربي الكلاسيكي، والأستاذ يانوش دانِتسكي، على ترجمة الأدب العراقي الكلاسيكي والحديث ونشره. وفي عام 1977 خُصص عددٌ كامل من مجلة «الأدب في العالم» (Literatura na świecie) للأدب العربي، وخصوصًا للأدب العراقي. العراق والحرب في الأدب والسينما البولنديةجعلت التجارب الصعبة التي مرّ بها العراق في العقود الأخيرة البلاد ترتبط في الوعي البولندي بالحرب. ونتيجةً لذلك أصبحت الموضوعات العراقية في الأدب والسينما البولندية مرتبطةً بالحرب أيضًا، وغالبية الأعمال خلال السنوات الأخيرة تنتمي إلى أدب الواقع والوثائقية. وأبرز ترجمة بولندية للأدب العراقي الحديث في السنوات الماضية هي رواية «فرانكنشتاين في بغداد» للكاتب أحمد سعداوي، التي نُشرت في بولندا عام 2018، وتدور أحداثها في بغداد في فترة الاضطراب التي أعقبت سقوط صدام حسين. ومن بين الكتّاب البولنديين الذين لا يمكن تجاهلهم عند تناول الموضوع العراقي في الأدب البولندي المعاصر مارتسين فالينسكي، وهو دبلوماسي سابق وعقيد متقاعد في الاستخبارات البولندية. أمضى فالينسكي سنواتٍ طويلة في العراق، بما في ذلك خلال الحرب ضد داعش. غير أن إلهامه لكتابه الأول جاء من أحداث الحرب العالمية الثانية، إذ عبر الجيش البولندي أثناء الحرب من الاتحاد السوفيتي عبر العراق في طريقه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية.كتب فالينسكي مع ماريك كوزوبال ثلاثيةً جاسوسية عام 2019، تجري أحداثها في زمنين مختلفين: الأول خلال الحرب العالمية الثانية، والثاني في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في البُعد الأول البطل هو الجندي والعميل البولندي ميتشيسواف كلاينر، المكلف بمهمة إنقاذ الأعمال الفنية البولندية المهددة بالنهب الألماني والسوفيتي. أما في البُعد الثاني، فالبطل هو العقيد مارسين وودينا، أحد أبرز ضباط الاستخبارات البولندية المتمركزين في العراق، الذي يحاول في الجزء الأول من الثلاثية، في كتاب «عملية رافائيل»، كشف مصير لوحة «بورتريه الشاب» للفنان رافائيل سانتي التي اختفت خلال الحرب العالمية الثانية. وفي مساره يصطدم بوكلاء روس يعملون في العراق. قادت نجاحات فالينسكي الأدبية إلى مزيدٍ من الروايات التجسسية وإلى التخطيط لتحويل «عملية رافائيل» إلى فيلم سينمائي. ويُذكر أن المؤلف قدّم وصفًا متقنًا للواقع العراقي قديمًا وحديثًا، فكتبه مليئة بتفاصيل العادات والمطبخ والعمارة والطبيعة العراقية، مما يُتيح للقارئ البولندي فهمًا أعمق لهذا البلد. كما يجدر الإشارة إلى فيلمين بولنديين دارت أحداثهما في العراق:الأول «عملية ساموم» أخرجه فلاديسواف باسيكوفسكي عام 1999، ويروي قصة إحدى المهمات السرّية البولندية في العراق عام 1990.أما الثاني «كربلاء» من إخراج كشيشتوف فوكاشيفيتش، فتدور أحداثه خلال الحرب الأهلية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين. أُنتج الفيلم عام 2015 بالاستناد إلى تقارير الحرب التي كتبها مارتسين غوركا وآدم زادڤورني والكتاب السيري لـغريغوج كاليتسياك. مراسلو الحروب والتبادل الثقافيتشتهر بولندا بتقاليدها الأدبية في صحافة الحروب، وقد نال ريشارد كابوشينسكي شهرة عالمية في القرن العشرين. لذلك ليس من المستغرب أن تُكتب عدة كتب من هذا النوع عن سقوط صدام حسين والاحتلال والحرب الأهلية والحرب ضد داعش. كرّس الصحفي البولندي البارز بافاو سمولينسكي كتابين عن العراق. الأول بعنوان «العراق، جحيم في الجنة» صدر عام 2004 بعد سقوط صدام مباشرةً، وصوّر واقع بداية الاحتلال وحكم الديكتاتور الدموي. أما الثاني، الصادر عام 2016 بعنوان «اللوز الأخضر أو لماذا يحتاج العالم إلى الأكراد»، فقد نقل القارئ البولندي إلى كردستان العراق.ويُذكر أيضًا كتاب الصحفي بيوتر كراشكو «العراق في الحرب» الصادر عام 2012، وكتاب المراسل الحربي ماريُوش زافادسكي «العراق الجديد الرائع» في العام نفسه. وفي عام 2008 نشر الدبلوماسي البولندي البارز رومان خالاتشكيفيتش، سفير بولندا في العراق بين عامي 1997 و2002، كتابه «غروب الديكتاتور: العراق بعينيّ»، الذي قدّم رؤيةً فريدةً عن السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين. وفي عام 2014، بعد هجوم داعش على الموصل، عندما اجتاحت وسائل الإعلام العالمية موجة من الآراء ترى أن العراق دولة فاشلة تواجه التفكك، قرر الصحفي فيتولد ريبِتوفيتش دحض هذه الصورة السلبية للعراق. اعتمد كتابه «الله أكبر: الحرب والسلام في العراق» على تجاربه الشخصية كمراسلٍ حربي وعلى رحلاته ومقابلاته في مناطق العراق غير المتأثرة بالحرب، ومن هنا جاء ذكر كلمة «السلام» في العنوان. فالكتاب أكثر من مجرد تقريرٍ حربي، إذ يحتوي أيضًا على شهادات من القتال الذي خاضته القوات العراقية كافة ضد داعش، ومقابلات مع اللاجئين، ويقدّم خلفية تاريخية وسياسية واجتماعية أوسع مرفقة بوصفٍ لمدن بغداد والنجف وكربلاء والأنبار ونينوى وكردستان وغيرها. وكان ريبِتوفيتش قد نشر قبل ذلك كتابه «اسمي كردستان»، الذي خصّص جزءًا كبيرًا منه لعادات وتاريخ الأكراد العراقيين. ولا يقتصر التعاون الثقافي بين بولندا والعراق على الأدب. فقد زار فنانون عراقيون بولندا مراتٍ عديدة، وأدّى فنانون بولنديون عروضهم في العراق. على سبيل المثال، في أكتوبر 2010 قدّم فريق كيتشيرا للغناء والرقص الليمكي من مدينة ليغنيتسا عروضًا في مهرجان بمدينة السليمانية الكردية، بينما كان قد زار بولندا قبلها فريقٌ كردي للمشاركة في مهرجانٍ مماثل في ليغنيتسا. كما تُنظم في بولندا بانتظام معارض مخصصة لثقافة الأكراد العراقيين. ويجب تعزيز هذا الاتجاه، فكلٌّ من بولندا والعراق يمتلك ثقافة غنية للغاية، والتعرّف المتبادل بينهما يوسّع آفاق المجتمعين ويُسهم في
التعاون الأمني بين بولندا والعراق يشمل أيضًا المساعدات الإنسانية

تفهم بولندا أهمية استقرار العراق للأمن الدولي وترى أن هذا الموضوع يجب النظر إليه على نحوٍ شامل. فعندما سيطر تنظيم داعش على مساحاتٍ واسعة من العراق عام 2014، كان تحرير تلك المناطق وتدمير هذا التنظيم الإرهابي في مصلحة ليس العراق فحسب، بل العالم المتحضر بأسره، بما في ذلك بولندا. ولم تتطلّب مكافحة داعش الجهد العسكري فقط، بل المساعدة الإنسانية أيضًا. يزدهر الإرهابيون على المشاعر السلبية مثل الشعور بالظلم، والرغبة في الانتقام، والكراهية، ويستغلون الأوضاع الصعبة للتلاعب بعقول اليائسين، وخصوصًا الأطفال والشباب. ولهذا السبب نفذت منظمات إنسانية بولندية مثل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) والعمل الإنساني البولندي (PAH) والبعثة الطبية البولندية (PMM) وحُرّاس النسر وكاريتاس وعون الكنيسة المتألمة العديد من مشاريع المساعدة في العراق. وقد قُدمت المساعدات البولندية مباشرةً عبر تمويل وزارة الخارجية البولندية لمشاريع المنظمات المذكورة وجمع التبرعات، وكذلك بشكلٍ غير مباشر عبر المساهمات في صناديق الأمم المتحدة المخصّصة لمشاريع في العراق. يُعد العمل الإنساني البولندي (PAH) من أشهر المنظمات الإغاثية وأكثرها خبرة في بولندا. وفي العراق، ومنذ عام 2016، كان يقدّم المساعدة للأسر المتضررة من داعش، بما في ذلك النازحون من المناطق التي استولى عليها الإرهابيون. وتركزت أنشطة PAH أساسًا في إقليم كردستان ومدينة الموصل. وفي إقليم كردستان شملت المساعدات تقديم الدعم الطارئ والمالي لأفقر الأسر، والتدريب المهني، والمساعدة القانونية، بما في ذلك مساعدة الأطفال الذين حرموا من الوثائق الثبوتية بسبب الحرب على استخراجها. وفي مخيمات النازحين داخليًا وفّرت المنظمة الوصول إلى مياه نظيفة وأدارت جمع النفايات وبناء أنظمة تصريف الصرف الصحي. وأولت المنظمة أهمية كبيرة للترويج لممارسات النظافة، مع مراعاة الظروف الاجتماعية المحلية؛ لذا فُصلت المراحيض والحمامات حسب الجنس، ووُفرت الإضاءة لضمان الوصول الآمن إليها. كما قامت PAH بتوظيف سكان المخيمات في هذه الأنشطة لتأمين فرص عمل ومصدر دخل لهم. وفي الموصل، كانت PAH من أوائل المنظمات التي دخلت الأحياء الشرقية للمدينة أثناء تحريرها على يد القوات العراقية لمساعدة السكان على تجاوز تلك الفترة الصعبة. ونفّذت فرق PAH جهودًا مكثفة لتحسين معايير النظافة وتثقيف المجتمع المحلي حول الوقاية من العدوى. إضافةً إلى ذلك، وبالتعاون مع مديرية التربية، حدّثت PAH البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في 11 مدرسة وشاركت في إعادة إعمار شبكات المياه والمجاري. اكتسب المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) سمعةً كواحد من أفضل المنظمات الإنسانية في العالم. ففي عام 2018 قدّم 500 منزلٍ معياري مجهّز بالكامل للعائلات العائدة إلى الموصل التي دمّرتها الحرب. ووفّرت هذه المنازل مأوى مؤقتًا ريثما تُعاد إعمار المساكن الدائمة، وأصبحت رمزًا للمساعدة البولندية. علاوةً على ذلك، نفّذ PCPM مشاريع هدفت إلى إعادة بناء الإمكانات الاقتصادية للمنطقة، على سبيل المثال من خلال إنشاء سوق محلي في بلدة تلكيف يتيح للمزارعين بيع منتجاتهم. كما نفّذت المنظمة تدريبات وقدّمت دعمًا مؤسسيًا على شكل مساعدةٍ للحكومات المحلية في التخطيط العمراني وإدارة الأزمات. ومنذ عام 2016 ركّزت البعثة الطبية البولندية (PMM) نشاطها في العراق على تقديم الرعاية الصحية للاجئين والنازحين داخليًا. ولهذا الغرض شغّلت عيادات ثابتة في مخيمات اللاجئين (بما في ذلك بهركه وحرشام) وعيادات متنقلة تصل إلى القرى النائية لتقديم الرعاية الصحية الأساسية فضلًا عن الاستشارات للأطفال والنساء. كما أطلقت المنظمة عيادات للأسنان داخل المخيمات، ميسّرةً الوصول إلى خدمات غالبًا ما كانت متعذّرة ماليًا على اللاجئين. وقدّمت كذلك دعمًا نفسيًا للمصابين بصدمات الحرب وضغوط النزوح. ومن المنظمات المنخرطة بقوة في مساعدة العراقيين حُرّاس النسر. فقد خطرت فكرة تقديم المساعدة الإنسانية لمؤسسها بارتوش روتكوفسكي وهو في منزله يشاهد تقريرًا تلفزيونيًا عن مأساة الإيزيديين. وبعد بضعة أشهر توجّه إلى العراق مع أول شحنة مساعدات. وتدعم هذه المنظمة على وجه الخصوص مركزًا للأطفال والنساء الإيزيديات في خنكة، وتساعد في تلبية احتياجاتهم الأساسية مثل شراء الوقود للحافلة والمولّد الكهربائي والقرطاسية المدرسية. كما ساعدت حُرّاس النسر سكان المدن والقرى في نينوى التي حُرّرت من احتلال داعش عبر الإسهام في إعادة بناء المنازل وخلق فرص عمل (مثل دعم المشاريع العائلية الصغيرة كصالونات الحلاقة والورش الميكانيكية من خلال تزويدها بالمعدات)، ودعم الزراعة (مثل المساعدة في شراء الماشية)، وبناء وتجهيز المدارس والمراكز المجتمعية، وتمويل الدورات المهنية للبالغين، وخصوصًا النساء. وقدّمت المنظمات الكاثوليكية مثل كاريتاس وعون الكنيسة المتألمة المساعدة أيضًا. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المساعدات لم تكن موجهة للمسيحيين حصرًا، ولم ترفض هذه المنظمات مساعدة أي شخص على أساس ديانته. وكانت كاريتاس من أوائل المنظمات التي استجابت لأحداث عام 2014 المأساوية في العراق، وبالتعاون مع وزارة الخارجية البولندية ووزارة الدفاع الوطني، أوصلت أولى المساعدات العينية إلى اللاجئين. كما موّلت المنظمة تشغيل عيادة متنقلة ودعمت مشاريع تعليمية للأطفال المتأثرين بالنزاع. أما عون الكنيسة المتألمة فقد دعمت بالأساس إعادة إعمار المنازل في سهل نينوى، بما في ذلك في مدن مثل قره قوش وكرمليس وبرطلة. وبفضل دعمها أُعيد بناء نحو 14 ألف منزلٍ مدمّر. وساعدت المنظمة أيضًا في إعادة إعمار الكنائس وقدّمت مساعدات طارئة، ولا سيما لمئات الآلاف من المسيحيين الذين فرّوا إلى إقليم كردستان خلال الحرب مع داعش. وقد زوّدتهم بالغذاء وسدّدت إيجارات الشقق، ومولت مدارس مؤقتة داخل حاويات لضمان استمرارية تعليم الأطفال. ويجدر إضافة أن تقديم مثل هذه المساعدات في فترة حرجة بالنسبة للعراق أسهم أيضًا في الحد من الهجرة من العراق إلى أوروبا، وهي ظاهرة سلبية بالنسبة للعراق والدول الأوروبية على حدٍ سواء. فمن منظور العراق كان ذلك يعني في كثير من الأحيان فقدان طاقاتٍ بشرية وعقولٍ يحتاجها البلد بشدة في تلك الأوقات العصيبة. وإضافة إلى ذلك، انخدع كثير من العراقيين بصورةٍ زائفة عن حياةٍ مزدهرة في أوروبا، وكثيرًا ما رغبوا بعد مواجهة الواقع في العودة إلى وطنهم بعد أن خسروا أموال السفر ودفعوا لوسطاء غالبًا ما كانوا مجرد محتالين. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد أن بدأت بيلاروسيا وروسيا في تسليع ملف المهاجرين في إطار عمليةٍ هجينة ضد بولندا، ما أدى إلى مآسٍ لكثير من العراقيين. لذلك تسعى بولندا إلى التعاون مع العراق لمواجهة هذه الظاهرة السلبية. وإضافةً إلى المساعدات الإنسانية في فترة أزمة العراق، يشمل ذلك التعاون في مكافحة التضليل حول الهجرة ومكافحة المحتالين والمجرمين الذين ينظمون الاتجار بالبشر. كما انضمّت بولندا إلى الائتلاف الدولي لمحاربة داعش ضمن عملية العزم الصلب (Operation Inherent Resolve). ومنذ عام 2016 يتمركز في العراق قوامٌ عسكري بولندي يبلغ 350 جنديًا يؤدّي مهام التدريب والإسناد والاستشارة الفنية. ويقدّم المدربون البولنديون، ومعظمهم من القوات الخاصة، تدريباتٍ متقدمةً للقوات الخاصة العراقية، ما يحسّن قدرتها على تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب بصورةٍ مستقلة. كما يدرّب المختصون البولنديون الكوادر الفنية العراقية على تشغيل وصيانة وإصلاح المعدات العسكرية، بما في ذلك المعدات ذات المنشأ السوفيتي السابق، ما يعزّز استقلالية الجيش العراقي وفعاليته. ويوفر فصيلٌ هندسي بولندي المشورة والتدريب على إنشاء وصيانة التحصينات وعلى
الطعام، الطرق، والجسور: بولندا في العراق اليوم، في الماضي، وفي المستقبل

تُعد بولندا واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين للعراق في الاتحاد الأوروبي، وتشهد التجارة بين البلدين نموًا مستمرًا. وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن أيام المجد التي شهدها التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فإنها بلا شك تكتسب زخمًا واضحًا، وتُظهر اتجاهًا تصاعديًا واضحًا، وتفتح آفاقًا جديدة أمام رجال الأعمال البولنديين في هذا السوق الواعد، وإن كان يتطلب الكثير. فبعد سنواتٍ من عدم الاستقرار، أصبح العراق شريكًا تجاريًا متزايد الأهمية لبولندا في الشرق الأوسط، وهو ما تؤكده المؤشرات التجارية الصاعدة وتكثيف الاتصالات السياسية والاقتصادية. وعلى وجه الخصوص، تضاعفت قيمة الصادرات البولندية إلى العراق خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما يُعد مؤشرًا جيدًا جدًا للمستقبل. تُصدر بولندا إلى العراق بالأساس المنتجات الزراعية والغذائية. فالأغذية البولندية، بما في ذلك منتجات الألبان، ومشتقات الحبوب، واللحوم، تحظى بتقديرٍ كبير من المستهلكين العراقيين. وتشمل مجموعات السلع الأخرى المُصدَّرة إلى السوق العراقي المنتجات الكيماوية، والآلات والمعدات (وخاصة تلك المستخدمة في الزراعة والصناعة)، إضافةً إلى المعادن الأساسية ومنتجاتها. وفي المستقبل، يمكن لبولندا أيضًا أن تطوّر تعاونها مع العراق في قطاعات الطب والصيدلة، خاصةً وأنها وجهة مشهورة للسياحة العلاجية القادمة من العراق. كما تستطيع بولندا أن تقدّم دعمها للعراق في مجال تحديث الزراعة وإدارة الموارد المائية ونقل التكنولوجيا في هذا المجال. ويُظهر اهتمام العراق بمثل هذا التعاون زيارة وفدٍ عراقي من لجان الزراعة والمياه والاقتصاد والتجارة في البرلمان العراقي، التي جرت في ديسمبر 2024. التقى الوفد بممثلين عن غرفة التجارة البولندية، وزار شركة SPAW-MET للآلات الزراعية، حيث تم توقيع خطاب نوايا للتعاون. كما يتطور التعاون أيضًا على مستوى الغرف التجارية المحلية وحكومات المقاطعات، وخاصة في مقاطعات بولندا الكبرى، وبولندا الصغرى، وبودكارباتشيه، إضافة إلى الغرفة الغربية للتجارة، والمنطقة الاقتصادية في ستاراخوفيتسه، وجمعية المبتكرين الريفيين. يمكن أن يمتد التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي أيضًا إلى مجالاتٍ أخرى، وخصوصًا الطاقة. فقد اشترت بولندا النفط العراقي في السابق، ويمكنها أن تدعم بخبرتها تطوير سوق تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة في العراق، والتحول الطاقي، وتطوير قطاع الاستخراج. كما يُعد توريد المعدات العسكرية قطاعًا واعدًا. إضافة إلى ذلك، تمتلك بولندا خبرةً واسعة في تحديث الطرق والسكك الحديدية، وهي أيضًا مصنّع للمعدات والعربات الحديدية، مما يجعلها شريكًا ممتازًا للعراق في تنفيذ مشروع البنية التحتية المعروف باسم “طريق التنمية” أو “القناة الجافة”، الهادف إلى ربط الخليج العربي بأوروبا. ومن الجدير بالذكر أن لبولندا تاريخًا طويلاً في تنفيذ المشاريع البنية التحتية في العراق، وأن مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1 في العراق اكتسبت تقديرًا كبيرًا ولا تزال تُذكر حتى اليوم. تاريخ البنية التحتية البولندية في العراقبدأ التعاون الاقتصادي بين بولندا والعراق رسميًا عام 1959 بتوقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني. وتميزت هذه الفترة بمشاركة الشركات البولندية الفعّالة في مشاريع البناء والصناعة في العراق. وكان العراق بالنسبة لبولندا أحد أهم الشركاء التجاريين في الشرق الأوسط. في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، نفذت شركات بولندية مثل Polimex-Cekop وBudimex وDromex وElektromontaż وNaftobudowa نحو 25 مشروعًا استثماريًا ضخمًا في العراق. وشملت هذه المشاريع: بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين ما بين 200 و250 مليون دولار سنويًا. وكان العنصر الأساسي في الصادرات البولندية، إلى جانب خدمات البناء، هو توريد المعدات العسكرية، التي شكلت أكثر من 70٪ من الصادرات، بينما كان النفط الخام هو الاستيراد الرئيسي لبولندا. ويُقدَّر أن نحو 50 ألف بولندي عملوا في العراق خلال هذين العقدين. ولم تخلُ هذه الأعمال من الخسائر، إذ توفي حوالي 50 عاملًا بولنديًا في حوادث، معظمها أثناء بناء الطريق السريع. وتحمل حادثة وفاة تيريزا روزنوفسكا، التي كانت تعمل في مركزٍ طبي تابع لشركة Dromex وكانت زوجة أحد مديري فروع الشركة في العراق، ليش روزنوفسكي، مكانةً خاصة في ذاكرة العراقيين. فقد أثبت السفير البولندي الأسبق في العراق، كشيشتوف فومينسكي، أنها توفيت في حادث أثناء توجهها من معسكر تل لحم نحو الناصرية، وأن قبرها الرمزي في موقع الحادث موّله زوجها. ولا يزال هذا القبر قائمًا حتى اليوم، وقد ارتبط بأسطورة رومانسية في ذاكرة السكان المحليين حول فتاةٍ بولندية شابة تُعرف في العراق باسم “تالا”، جاءت لزيارة خطيبها المهندس في عيد الميلاد عام 1982. وكما كتب فومينسكي: «كان الخطيب يأتي إلى قبرها بالزهور يوميًا لعدة سنوات حتى نهاية عمله في العراق. وأصبح المكان رمزيًا وما زال يحتفظ بهذه المكانة في وجدان السكان المحليين حتى اليوم. تحوّل إلى أسطورة غامضة مع مرور الزمن، والحروب المتعاقبة، وضعف ذاكرة البشر. وقد أعيد ذكرها مؤخرًا في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي المحلية، التي أثارت اهتمام الإعلام البولندي والصحفيين الأوروبيين عند تداولها». كان أول مشروعٍ بنته بولندا في العراق هو جسر دجلة قرب تكريت، الذي أنجزته شركة Budimex-Cekop بين عامي 1969 و1971. وهو جسر خرساني سابق الإجهاد يبلغ طوله 800 متر وله أهمية استراتيجية كبيرة للعراق. قاد العمل حينها المهندس زيجمونت باتر، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عامًا فقط، وقد حصل على درجة الماجستير في الهندسة المدنية المتخصصة في الجسور والهياكل التحتية من جامعة وارسو للتكنولوجيا قبل خمس سنوات فقط. اكتسب باتر شهرة كأحد أبرز مهندسي الجسور البولنديين، وعاد إلى العراق عام 1980 ليعمل كبير المهندسين في شركة Dromex لمشاريع الاتصالات والبناء الخارجي. كان العراق آنذاك من أسرع الدول العربية نموًا، وقد سمحت له عائدات النفط بتمويل عملية التحديث. أما بولندا فكانت تملك يدًا عاملة رخيصة لكنها شديدة الكفاءة. وبعد بناء الجسر في تكريت، جاءت طلبيات جديدة شملت مصانع السكر والأسمنت والصلب، والمجمعات السكنية، والقنوات، والسدود. ومع ذلك، فإن أعظم إنجازٍ استثماري لبولندا في العراق كان مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1، الذي يربط ميناء أم قصر على الخليج العربي بمدينة الرمادي في محافظة الأنبار، حيث يتفرع إلى قسمين يؤديان إلى الحدود مع الأردن وسوريا. يبلغ طول هذا الطريق 1200 كيلومتر ويمر عبر البصرة والناصرية والديوانية والحلة وبغداد والفلوجة والرمادي. بين عامي 1981 و1989، بنى البولنديون مقطعين رئيسيين من أصل 13 قسمًا، بلغ مجموع طولهما 220 كيلومترًا. كان أول قسمٍ تبنّته شركة Dromex هو المسمى R/7 من الناصرية إلى الرميلة في محافظة البصرة، وبلغت قيمته حينها 300 مليون دولار. وكان المشروع صعبًا جدًا من الناحية اللوجستية والفنية. صُمم الطريق السريع وفق المعايير الألمانية الغربية باعتباره “غير قابل للتدمير”، مع مراعاة حمولة محورية قدرها 25 طنًا. واضطر مهندسو الطرق البولنديون إلى بناء ليس الطريق فقط، بل أيضًا جميع المرافق المساندة، بما في ذلك المقالع لاستخراج الركام (حوالي 55 ألف متر مكعب شهريًا)، ومصانع الخرسانة والإسفلت، ومئات الكيلومترات من طرق الخدمة، وخط سكة حديد بطول 55 كيلومترًا لنقل الركام. جرت الأعمال في ظروف مناخية قاسية للغاية بالنسبة للبولنديين، حيث بلغت درجات الحرارة 70 درجة مئوية. وكما يتذكر المهندس
علماء الآثار البولنديون في العراق

من المعروف أن علماء الآثار البولنديين يتمتعون بسمعة عالمية رفيعة المستوى، والعراق يُعد جنة لأي عالم آثار، إذ هو مهد الحضارة الإنسانية. وعلى عكس علماء الآثار في الحقبة الاستعمارية الذين حققوا اكتشافات مذهلة ولكنهم تسببوا أيضًا في تدمير ونهب واسع للتراث المحلي، فقد اكتسب البولنديون سمعة ممتازة في الشرق الأوسط.وصل البولنديون إلى العراق لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، في فترةٍ كانت فيها العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتطور كذلك. كان أول عالم آثار بولندي في العراق هو الشاب الموهوب يانوش ميوشينسكي، تلميذ الأستاذ الشهير كازيميش ميخالوفسكي، الذي عمل هناك بين عامي 1974 و1976. ركزت أبحاثه على المدينة الآشورية كالحو في موقع نمرود في نينوى. سعى ميوشينسكي إلى إعادة بناء الزخارف البارزة في قصر الملك آشور ناصر بال الثاني في القرن التاسع قبل الميلاد. ولسوء الحظ، ورغم النتائج الواعدة، انقطعت أعماله بسبب وفاته المبكرة، إذ قُتل في مرسين بتركيا عن عمرٍ لم يتجاوز الثلاثين عامًا. بعد فترةٍ وجيزة، بدأت بعثة أثرية بولندية جديدة أعمالها في جزيرة بيجان على نهر الفرات في محافظة الأنبار، بقيادة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي والدكتورة الراحلة ماريا كروغولسكا، وكلاهما من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو. وقد أُجريت الأعمال بين عامي 1979 و1983، وأسفرت عن اكتشاف حصنٍ آشوري جديد يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، مما وسّع المعرفة بخطوط التحصين التي كانت تحمي تلك الإمبراطورية القديمة. وفي ثمانينيات القرن الماضي، واصل فريق بقيادة الأستاذ الراحل ستيفان كوزوفسكي والأستاذ بيوتر بييلينسكي، وكلاهما من جامعة وارسو، العمل في مواقع مثل تل السعدية في محافظة ديالى، وتل رُجيم، وتل رَفّان، ومُلفآت في نينوى، ومصنع في الأنبار، ونِمريك 9 في محافظة دهوك ضمن إقليم كردستان الحالي. وكان العمل في الموقع الأخير، الذي أُجري بين عامي 1985 و1989، بالغ الأهمية والأهمية العلمية، إذ أدى إلى اكتشاف ووضع مخططٍ كامل لمستوطنةٍ من العصر الحجري الحديث، شملت بيوتًا محفوظة مع تجهيزاتها. ويعود هذا العصر إلى الفترة الواقعة بين نهاية الألف التاسعة ومنتصف الألف السابعة قبل الميلاد. كما عُثر على نحو عشرين تمثالًا حجريًا صغيرًا، معظمها يصوّر حيوانات، بينما كان اثنان منها ذا شكلٍ إنساني. وأظهرت الأبحاث أيضًا أنه بعد فترةٍ طويلة من الهجر، أُعيد إسكان الموقع قبل أربعة آلاف عام من قِبل الحوريين المنتمين إلى مملكة ميتاني.كتبت زينيا كولنسكا، التي سيُذكر اسمها لاحقًا، عن موقع نِمريك في كتابها «قدر العالِم الآثاري»: «هناك وُجدت للمرة الأولى في العالم قطع من فنون العصر الحجري الحديث. وبالنسبة للعراقيين، يُعد هذا المكان من أهم المواقع على الخريطة الأثرية—موازٍ في مكانته لمدن كِش وبابل ونينوى وكهف شانيدار». في عام 1990، انطلقت بعثة أثرية جديدة من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو، برئاسة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي، نحو العراق. وكانت وجهتها الجوهرة المعمارية في بلاد ما بين النهرين الواقعة على طريقٍ تجاري قديم يمر عبر صحراء نينوى، وهي طبعًا المدينة البارثية الخلابة والمدهشة «الحضر»، التي بُنيت في القرن الثالث قبل الميلاد. وكانت الحضر أول موقعٍ في العراق يُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1985. ركز عمل البولنديين في المقام الأول على تحصينات المدينة، لكن الحرب قطعت أعمالهم سريعًا. وقد تعرضت الحضر لأضرار جسيمة بين عامي 2014 و2017 عندما كانت تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي. وبعد أيام قليلة من طرد الإرهابيين من المنطقة، نُشر تقرير للصحفي فيتولد ريبِتوفيتش في وسائل الإعلام البولندية، بعد أن وصل إلى الموقع برفقة قوات الحشد الشعبي ووثّق حجم الدمار. اكتشافات جديدة وتحديات حديثةظهرت بعثة أثرية بولندية جديدة بعد سقوط نظام صدام حسين. كانت تلك فترةً صعبة بالنسبة للتراث الثقافي العراقي. فبعد نهب المتحف الوطني في بغداد، استغرق الأمر سنواتٍ طويلة وجهودًا كبيرة لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة. حاول علماء الآثار البولنديون حماية التراث العراقي المهدد في تلك المرحلة الحرجة. ومن الجدير بالذكر أن الكتيبة العسكرية البولندية كانت الوحيدة التي ضمّت في صفوفها علماء آثار مدنيين. كانت مهامهم الأساسية توثيق وحماية المواقع الأثرية المهددة، ودعم المؤسسات العراقية المعنية بالآثار، وتدريب الجنود على حماية المعالم. كما نفذوا عمليات استطلاع ميدانية، مستخدمين أحيانًا المروحيات العسكرية لتحديد المواقع المتضررة من أعمال النهب. وكان من أبرز إنجازاتهم المسح والتوثيق عام 2007 لأنقاض مدينة واسط الإسلامية، مما ساعد على تأمينها وحمايتها من النهب. في عام 2012، انطلقت بعثة أثرية من جامعة آدم ميكيفيتش بقيادة الأستاذ رافاو كولنسكي نحو العراق. وقد نافست إنجازاتها ما تحقق في منتصف الثمانينيات في موقع نِمريك 9. وأُجري العمل أيضًا في إقليم كردستان العراق، وكان كولنسكي نفسه ذا خبرة سابقة في العمل بالعراق، بما في ذلك في موقع نِمريك 9. وكما كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، وهي أيضًا عالمة آثار: «منذ أن أذكر، كان العراق دائمًا مجال اهتمام رافاو. ذهب إلى هناك لأول مرة عام 1985 بدعوة من الأستاذ بيوتر بييلينسكي للتنقيب في تل رُجيم. وفي العام التالي، رافق الأستاذ ستيفان كوزوفسكي في موقع نِمريك الشهير». يركز مشروع كولنسكي الحالي، المعنون «تاريخ الاستيطان في كردستان العراق»، والذي لا يزال مستمرًا، على جرد التراث الثقافي في منطقة تبلغ مساحتها 3000 كيلومتر مربع في حوض نهر الزاب الكبير. وشملت الأعمال مسوحات سطحية أفضت إلى تحديد أكثر من 300 موقع أثري تعود إلى عصورٍ مختلفة، من الثقافات ما قبل التاريخية (مثل ثقافة حسونة) إلى العصور الحديثة. ومن أبرز إنجازات البعثة اكتشاف أجزاء من نقشٍ صخري مدمر يعود إلى 4500 عام في منطقة غُندُك عام 2013، مما أتاح إعادة بناء جزئية له. ومن اللافت أن تدميره لم يحدث في العصور القديمة، بل في عام 1996. وكما أوضح الأستاذ كولنسكي في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء البولندية: «قام مجموعة من الباحثين عن الكنوز من تركيا بوضع شحنةٍ متفجرة، وكان الهدف من التفجير فتح طريقٍ إلى كنوزٍ مزعومة خلف النقش. وبالطبع، لم يكن هناك أي كنز، لكن الدمار كان هائلًا». واعتبر الأستاذ كولنسكي أن فرادة اكتشافه تكمن، من بين أمور أخرى، في أن «ناجحنا في إعادة قطعة أثرية إلى العلم كانت تبدو مفقودة إلى الأبد». ساعدت أبحاث البعثة الأثرية البولندية في كردستان، التي شارك فيها أيضًا علماء من جامعة وارسو، على توضيح توسع ثقافة الورك (Uruk) المنحدرة من جنوب العراق إلى المناطق المجاورة في أواخر العصر النحاسي. إنها قصة مثيرة عن الغزوات والاستيطان في عصور ما قبل التاريخ، مدفونة في الأرض ومُسجلة في اللُقى الأثرية. وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ كولنسكي وفريقه كانوا يفكّون رموز هذه القصة بين عامي 2012 و2017، بينما كانت المعارك العنيفة ضد إرهابيي داعش تدور على بعد 50 إلى 60 كيلومترًا فقط من مواقعهم. وقد كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، التي شاركت في البعثة، كتابها المميز «قدر العالِم الآثاري» الذي نُشر عام 2014. وعنوان الكتاب بحد ذاته لافت، إذ إن عالم الآثار يحفر غالبًا
دراسة البيئة المعلوماتية للعراق

صدر هذا التقرير في إطار مشروع “ألباتروس الثاني – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)”، الهادف إلى مكافحة التضليل (المعلومات المضللة) والتهديدات المعلوماتية التي تستهدف القيم والمؤسسات الديمقراطية، وتضر بالعلاقات الدولية وتؤثر سلبًا على صورة بولندا في لبنان والعراق ومصر. دراسة تأثير التضليل والدعاية على مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) — تقرير، استراتيجيات الدفاع، وتطبيق التوصيات. يقدم هذا التقرير تحليلاً متعدد الأوجه للبيئة المعلوماتية العراقية، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد نوقش بالتفصيل تأثير وسائل الإعلام التقليدية والحديثة على تشكيل الرأي العام، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى أهمية أنشطة المجموعات العرقية والدينية المختلفة (السنة والشيعة والأكراد والتركمان)، والمنظمات السياسية، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية. كما قام مؤلفو التقرير بتحديد ديناميكيات التأثيرات الإعلامية الخارجية التي تمارسها دول وجهات دولية أخرى، والتي تستغل الحساسيات الاجتماعية والدينية لتعزيز رواياتها ومصالحها الخاصة. تتكون هذه الدراسة من عشرة فصول، يمكن للقارئ من خلالها الحصول على صورة شاملة للمشهد الإعلامي العراقي. يبدأ التقرير بمناقشة وسائل الإعلام المحلية (الحكومية والخاصة والإقليمية – مع التركيز بشكل خاص على إقليم كردستان العراق – وتلك المرتبطة بالجماعات الدينية والأقليات). تركز الفصول التالية على كيفية إدراك واستقبال المعلومات في المجتمع العراقي، بالإضافة إلى المجالات الرئيسية للتهديد والتلاعب، مع التشديد بشكل خاص على التأثيرات الخارجية الاقتصادية والأيديولوجية والجيوسياسية. ومن العناصر الهامة في التقرير القضايا التي تلامس الحساسيات النفسية والاجتماعية المحلية – صدمات الحرب، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والعلاقات القبلية المعقدة. تتضمن الخلاصة توصيات تساعد في فهم ومكافحة محاولات التضليل التي تستهدف بشكل خاص نظرة العراقيين إلى الغرب وبولندا في الفضاء المعلوماتي العراقي. قم بتنزيل التقرير الكامل هنا دراسة البيئة المعلوماتية في العراق تثبت التحليلات المقدمة في التقرير أن سوق الإعلام العراقي شديد التنوع ومُسَيَّس بقوة. وتتوزع السيطرة على تداول المعلومات بين المؤسسات الحكومية والجهات الخاصة أو المذاهبية-الحزبية-العرقية المسؤولة عن البث. وتبقى الانقسامات العميقة في المجتمع، سواء على خلفية دينية-طائفية أو سياسية، عاملاً جوهرياً. ويشير التقرير إلى أن المتلقين الشباب يهيمنون على المجتمع العراقي، ويتزايد لجوؤهم إلى المصادر الإخبارية عبر الإنترنت، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا الجيل “الرقمي” معرض لعدد متزايد من الروايات المضللة، خاصة في المجالات الحساسة (مثل الدين، أو القضايا الأخلاقية والاجتماعية، أو التاريخ). تُعد الاستنتاجات المستخلصة من هذه الدراسة مفيدة لكل من مراقبي سوق الإعلام، والمحللين وصناع القرار، وكذلك جميع الأطراف المهتمة بالأمن المعلوماتي في العراق. ويُمثل هذا التقرير نتاج بحث حول آليات التأثير الدعائي في هذا البلد، ويمكن استخدامه للتخطيط لإجراءات تهدف إلى مكافحة التأثيرات الخارجية الضارة. ومن خلال إدراك الحقائق المتغيرة والتوترات الداخلية، يمكن لهذا التقرير أن يساعد في الاستعداد بشكل أفضل للتحديات التي تفرضها البيئة الإعلامية العراقية المعاصرة.
معركة الشرعية: التضليل الإعلامي، واللاجئون، وسلطة الدولة في لبنان

تدور أزمة الحكم في لبنان حول سؤالين مترابطين: من يملك القوة، ومن يتحكم في الخطاب الإعلامي. في عام ٢٠٢٥، سيبقى كلا السؤالين دون حل، وكلاهما يُناقَش في بيئة إعلامية مُهيأة لإثارة الغضب. بينما تستكشف بيروت مسارًا من شأنه أن يُلقي بمسؤولية أكبر على عاتق القوات المسلحة اللبنانية، بينما تسعى إلى انسحابات إسرائيلية متبادلة في الجنوب، فإن النقاش العام مُحمَّل مسبقًا بالتضليل الإعلامي. في الوقت نفسه، تُقوّض الحملات التي تُحركها الشائعات ضد اللاجئين السوريين والمؤسسات العامة الثقة الاجتماعية. هذه الضغوط تُغذّي بعضها البعض: عندما تُفقَد الشرعية، تُصبح السياسة مسرحية؛ وعندما تكون السياسة مسرحية، يسهل شراء التضليل الإعلامي. قبل الحقائق: خداع مُسبق للنقاش الأمني في لبنان أي مبادرة ذات مصداقية تتعلق بسلاح حزب الله ستُقرَّر إلكترونيًا قبل وقت طويل من وصولها إلى البرلمان. الرقصة مألوفة. تدّعي قنوات مجهولة تسريب المسودات وتدّعي وجود بنود سرية؛ وتُضخّم الحسابات الحزبية أو تقمع استطلاعات الرأي لتصوير نتيجتها المُفضّلة على أنها حتمية؛ ويُصوّر الناشطون من كلا الطرفين الاقتراح على أنه إما استسلام أو ضربة قاضية. نادرًا ما تُشكّل الحلول الوسطية – التسلسل، والتحقق، والتنفيذ – توجهًا. في مثل هذه الظروف، يكون التضليل المسبق أكثر قيمة من الرد. إن نشر مذكرة عملية تُحدّد المؤلفين، والمشاورات، ونقاط القرار يُزوّد الصحفيين والمواطنين بأساس واقعي قبل أن تُحدّد الشائعات المصطلحات. يكشف ملف اللاجئين عن نمط مُؤذٍ بنفس القدر. تُحفّز مقاطع فيديو مُجرّدة من سياقها، تُعاد تدويرها عبر الصفحات والمجموعات حتى تكتسب وزنًا حقيقيًا، تصاعد المشاعر المعادية للاجئين. تُعطي العناوين الرئيسية الأولوية للجنسية عندما تكون عرضية؛ بينما تُقدّم التعليقات “حلولًا” انتقامية عندما تكون المسارات القانونية والإدارية هي الطريق الوحيد المسؤول. عندها، يُصبح غموض السياسات عاملًا مُضاعفًا للكذب. بدون نهج متماسك يحترم الحقوق في قضايا الإقامة والعمل والعودة، يستبدل الفضاء الرقمي الغضب بالحوكمة، ويستفيد الفاعلون السياسيون من “الحسم” المتلفز. يُستخدَم التاريخ والهوية بشكل روتيني لعرقلة أي تسوية. تُعيد الدعاية الإقليمية صياغة النقاشات اللبنانية ضمن أطر حضارية أوسع – المقاومة في مواجهة الصليبيين، والشرف العربي في مواجهة الدمى الغربية – مُجمّعةً قرونًا في قصة أخلاقية لا تقبل أي غموض. هذه التقنية ليست جديدة، لكن كفاءتها في مجال عام منهك لا يمكن إنكارها. بمجرد تأطير السؤال على أنه وجودي، تُصبح الأدلة مجرد فكرة ثانوية، ويمكن تجاهل أي حقيقة منحرفة باعتبارها حرب معلومات عدوانية. الجنوب هو المكان الذي تلتقي فيه المعلومات والأمن بشكل أوضح. الانسحابات المتقطعة، والخطوط العازلة، والتبادلات المتقطعة تُنشئ منطقة رمادية دائمة، حيث يمكن لتقرير واحد غير مُتحقق منه – عن دورية، أو غزو، أو ضربة – أن يُثير الذعر في القرى التي تُعاني أصلًا من النزوح والفقر. هذا ليس أمرًا ثانويًا؛ إنه تكتيك. خلط الحقائق على الأرض، ثم تقديم الجهات الفاعلة غير الحكومية على أنها المفسرون والحامون الوحيدون الموثوق بهم. إن تآكل الثقة في القوات المسلحة اللبنانية وقوات اليونيفيل الناتج عن ذلك ليس عرضيًا؛ بل هو جوهر المسألة. لا تزال وسائل الإعلام اللبنانية ثروة وطنية، لكنها تعمل في ظل قيود شديدة. نقص الطاقة، وخسارة الموظفين، والضغوط القانونية تُنهك القدرة التحريرية. في الفراغ، تتسلل وسائل الإعلام الحزبية ذات البراعة الإنتاجية والأخلاقيات المرنة. والنتيجة اختبار قاسٍ للسوق: فالتقارير الحذرة، التي تُقر بعدم اليقين، تفقد أهميتها أمام اليقين الفوري، الذي يُظهر الهوية. بمجرد أن يتبنى الجمهور افتراض أن جميع الأطراف كاذبة بنفس القدر، فإن الإشارات القبلية فقط هي المهمة. هذا هو شرط انتصار مُروّج المعلومات المضللة. الحكم في ضبابية: مواجهة الشائعات مع إعادة بناء السلطة الدفاع ممكن، لكن يجب أن يمر عبر المؤسسات لا حولها. ستستفيد الحكومة والجيش اللبناني من بروتوكول متواضع ودائم لتجنب التضارب مع اليونيفيل وكبار المحررين: ملاحظات قصيرة ومؤقتة للأحداث ضمن فترة زمنية محددة للأحداث جنوب الليطاني، توضح ما هو معروف وما لم يتم التحقق منه. هذه ليست رسالة، بل هي إجراء. من خلال تطبيع التحديثات الواقعية في الوقت المناسب، تحرم السلطات الشائعات من الهواء، متجنبةً فخ المناصرة. يمكن لغرف الأخبار تعزيز المركز من خلال اعتماد حواجز بسيطة على القصص التي تُثير الجدل: التحقق من مصدرين مستقلين على الأقل؛ تجنب إبراز الجنسية في العناوين الرئيسية إلا إذا كان ذلك مبررًا ماديًا؛ إضافة سياق رسمي للبيانات؛ وإدراج سبل سياسية قانونية بدلاً من وصفات رقابة ذاتية. يمكن للمجتمع المدني مراقبة الامتثال ونشر بطاقات أداء شفافة، مكافئةً المنافذ الإعلامية التي تقاوم تأثير الغضب الرخيص. على المنصات التزامات لم يعد بالإمكان التهرب منها. خلال التصعيدات، ينبغي عليهم تفعيل احتكاك مؤقت على الخطوط الأمامية في المناطق عالية الخطورة، ونشر فرق اعتدال تتقن العربية الشامية. ستمنح لوحات السياق المرتبطة بسجل شائعات عام – وهو سجل مفتوح وقابل للبحث للمطالبات عالية التأثير مع تحديثات الحالة – المستخدمين مرجعًا محايدًا دون تفضيل أي جهة سياسية. ستُضعف الشفافية في قرارات التنفيذ، حتى لو كانت جزئية، الشكوك في أن عمليات الإزالة متحيزة. الإسناد مهم أيضًا. عندما تنخرط جهات مرتبطة بالدولة في حملات ترهيب ضد المدنيين اللبنانيين عبر الإنترنت، فإن الإسنادات التقنية العامة – ذات الإطار الضيق والمدققة قانونيًا – تزيد من تكلفة التكرار وتُثقف الجمهور حول الأساليب. قد يُناسب الصمت الاستراتيجي الاحتياجات الدبلوماسية قصيرة المدى، لكن الصمت المعتاد يُولّد المؤامرة ويدعو إلى التصعيد. إن سياسة تسمية مدروسة، مقترنة بقنوات سرية لتهدئة التصعيد، تُحقق توازنًا أفضل. لا يمكن أن يكون التعليم مجرد فكرة ثانوية. يمكن لوحدات تدريبية قصيرة مدتها ساعتان، تُركّز على الهاتف، حول نظافة وسائل الإعلام، وتُقدّم من خلال المدارس والبلديات والنقابات، أن تُبدد الشكوك دون أن تُثير السخرية. الهدف بسيط: جعل المستخدم العادي يتوقف قليلًا قبل المشاركة، وإدراك دلالات التلاعب الشائعة، وفهم أن الإقرار بالشك قوة لا ضعف. لن تُكسب معركة لبنان من أجل الشرعية بالخطابات البراقة، بل ستُكسب باستعادة عادة تصديق الحقائق المُوثّقة ومعاقبة من يُقلّبها. التضليل الإعلامي ليس مُزعجًا مُجرّدًا؛ بل أداة تُشرّع أعمال الانتقام، وتُخرّب الدبلوماسية، وتُقوّض المؤسسات. الحل ليس دعايةً أكثر صخبًا، بل إجراءات أكثر ثباتًا: انشر ما هو معروف، وحدّد ما هو غير مؤكد، وافعل ذلك بوتيرة تُراعي انتباه الجمهور. في نظام سياسيّ منهك بالارتجال، يكون الانضباط استراتيجية. إذا استطاع لبنان تعزيز الموقف العام بهذه الطريقة – تقليل التمثيليات وزيادة التحقق – فسيحصل على المساحة اللازمة لأي تسوية أمنية تُقلل من المخاطر على المدنيين. هذا لن يُنهي حرب المعلومات، بل سيُعيد ترتيب شروط الاشتباك لصالح من تقع على عاتقهم المهمة الأصعب: الحكم.
لبنان في مرمى النيران: التضليل سلاحٌ في المواجهة بين إسرائيل وحزب الله

لم تعد أزمة الأمن في لبنان محصورةً في ميادين المدفعية والأحزمة الحدودية. بل تتكشف الآن الصراعات الحاسمة على الشاشات والقنوات التلفزيونية والقنوات المشفرة، حيث تنتشر الروايات أسرع من الدبلوماسيين، وحيث يمكن لمقطع فيديو واحد أن يُشرّد الآلاف. منذ الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله، تعامل الطرفان مع مجال المعلومات كساحة معركة في حد ذاته. الهدف ليس مجرد نقل الأحداث، بل ترسيخ معناها قبل إثبات الحقائق. بالنسبة لبلدٍ يعاني من هشاشة نظامه الإعلامي ومؤسساته المُرهقة، يُعدّ هذا التحول استراتيجيًا، وليس شكليًا. ما يُميز المرحلة الحالية هو إعطاء الأولوية للسرعة على اليقين. تظهر مقاطع فيديو فيروسية للطائرات المُسقطة أو الأفواج المدمرة في غضون دقائق، غالبًا ما تكون مُقتطعة من لقطات قديمة أو ألعاب فيديو، مُجرّدة من سياقها، ومُرسلة عبر حسابات تختفي بنفس سرعة وصولها. بحلول الوقت الذي يلحق فيه التحقق بالركب، يكون الجمهور المستهدف قد انتقل بالفعل إلى قنوات مغلقة حيث تكافح الحجج المضادة لاختراقها. فيزياء الاهتمام لا ترحم: فالكذب مُحسّن للمشاركة السلسة؛ بينما يجب أن يتسلق التصحيح جبلًا من التعب وانعدام الثقة. لقد حوّل حزب الله والمنافذ التابعة له استخدامهم لتليجرام إلى استخدام احترافي، حيث بنوا إيقاعًا للرسائل يجمع مقاطع القتال مع محتوى الحوكمة الاجتماعية: لقطات إعادة الإعمار، وخطب التأبين في الجنازات، والمساعدات المجتمعية. التسلسل متعمد. في أعقاب الخسائر، يميل السرد إلى الصمود والشرعية المدنية؛ وفي أثناء المكاسب التكتيكية، يتحول إلى الردع والاحتفال. الهدف هو تقديم دولة داخل دولة لا تقاتل فحسب، بل تهتم أيضًا، مما يجعل الحركة مزود الخدمة الوحيد الموثوق به في الجنوب عندما تشعر الآليات الرسمية بالغياب أو الشلل. عبر الحدود، تجمع عمليات المعلومات الإسرائيلية ضد الجمهور اللبناني بين البث المفتوح والضغط النفسي المستهدف. الرسائل النصية المزيفة، والإعلانات الانتهازية، وموجات الشائعات المُعدّة بدقة، مُصمّمة لزعزعة استقرار المجتمعات، وإثارة الفرار، والأهم من ذلك، تقويض الثقة في الجيش اللبناني والسلطات البلدية. في بلدٍ يعاني من ضعف الإنترنت وانقطاعات الكهرباء المتكررة، تكون النتيجة هي مجال عام متقلّب: نوبات هلع مفاجئة، تليها فترات من الخدر، حيث يُمكن تصديق أي شيء بعد تجربة كل شيء. حقائق تحت النار: كيف يُشكّل التضليل الإعلامي الجنوب أصبحت مصداقية اليونيفيل هدفًا مُهمًا. تكمن قيمة البعثة في المراقبة المحايدة وحرية الحركة؛ فكلاهما يُقوّض أمام الرأي العام، وتُضعف فعاليتها العملياتية. تسعى القصص المُختلقة عن الدوريات، والتلميحات بالتواطؤ، والمواجهات المُدبّرة، إلى وصم البعثة بالتحيز أو الجمود. هذه الطريقة فجة لكنها فعّالة: زرع وقائع كاذبة، وتسريع الغضب، وجعل حتى التحقق الروتيني يبدو وكأنه تراجع عن المسار. وبهذا المعنى، تتحول الهجمات المعلوماتية إلى هجمات عملياتية؛ فهي تُسيّج مسارات الدوريات، وتُثبّط التعاون، وتُعقّد عملية خفض التصعيد. تعكس تجربة لبنان نهجًا أوسع نطاقًا: الرفض، والتشويه، والتشتيت، والانزعاج. تُرفض التقارير غير المُواتية على أنها مُختلقات من العدو؛ وتُشوّه الصور من خلال إعادة التسميات التوضيحية أو التحرير الانتقائي؛ ويُشتّت الانتباه بفضائح جانبية كلما برزت مخاطر إلحاق الضرر بالمدنيين كقصة. ويهدف الترهيب المُستهدف إلى إثارة الفزع في القرى الحدودية التي هجرها النزوح أصلًا. قد يكون كل تكتيك بمفرده قابلاً للإدارة؛ إلا أنه في حالة تضافر الجهود، يُرهق القدرات التحريرية ويُزعزع الثقة الاجتماعية، تاركًا المواطنين يواجهون الأزمة لا يملكون سوى هويتهم وغرائزهم. تُناقَش المبادرات الدبلوماسية مسبقًا على الإنترنت. أي اقتراح يمس أسلحة حزب الله، أو المواقف الإسرائيلية، أو دور القوات المسلحة اللبنانية، يدخل قاعة مرايا قبل أن يصل إلى طاولة المفاوضات. تزعم قنوات مجهولة تسريب المسودات؛ وتتداول حسابات حزبية “ملاحق” مزورة؛ وتظهر أرقام استطلاعات الرأي دون أي منهجية مُرفقة. وبحلول الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون، تكون عقول الكثيرين مغلقة. فالمخاطر واضحة. إذا كان المجال العام مُستعدًا لعدم التصديق، فإن المفاوضين يفقدون مساحة للمناورة ويحصل المُفسدون على حق النقض غير المستحق بتكلفة زهيدة. لقد زادت الأدوات المُولِّدة من سماكة الضباب. أصبحت التسجيلات الصوتية المصطنعة لأوامر ساحة المعركة، والتصريحات الملفقة بأصوات مألوفة، ومونتاجات الرؤية الليلية مع تنقيح البيانات الوصفية، متاحةً الآن على نطاق واسع. عوائق الدخول ضئيلة، وتأثيرها على سير عمل التحقق قاسٍ. في ثقافة إعلامية معتادة على المقاطع المُعاد توجيهها على واتساب وتيليجرام، يتلاشى المصدر عند المصدر. والنتيجة هي حالة من عدم اليقين، حيث ينتصر التفسير الأكثر عاطفية أو تأكيدًا للهوية تلقائيًا. تحتفظ وسائل الإعلام والمجتمع المدني اللبنانيان بقدرة كبيرة على الصمود، لكن قدراتهما مُرهقة. يؤدي استنزاف الكوادر، والضغوط القانونية، وانعدام الأمن في مجال الطاقة إلى تآكل المعايير التحريرية تحديدًا في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إليها. وتتدخل في هذه الفجوات قنواتٌ حزبيةٌ ذات قيم إنتاجية بارعة وروابط قانونية قابلة للإنكار، واعدةً بتحديثات فورية ووضوحًا أخلاقيًا. الضحية المباشرة هي المنطقة الوسطى: تقارير حذرة ومشروطة تُقرّ بعدم اليقين. فبمجرد أن يستسلم الجمهور لفكرة أن “الجميع يكذب”، تُمنح الأفضلية المعلوماتية لمن يصرخ بأكبر قدر من الإقناع. حرب المعلومات في لبنان: من التليجرام إلى الخط الأزرق لا تتطلب الاستجابة الموثوقة “اتصالات استراتيجية” مُبالغًا فيها؛ بل تتطلب عادات مُملة ومنضبطة تُنفذ بسرعة وبشكل مُنسق. يُمكن لغرف الأخبار والمنظمات غير الحكومية تجميع عمليات التحقق في مكتب دائم يعمل على مدار الساعة، لإنتاج تفنيدات مُختصرة للغاية باللغتين العربية والإنجليزية، مُؤرخة ومُكتوبة للشاشات، لا للأرشيف. يجب أن تُصبح مُلصقات المصدر – تاريخ الالتقاط، المصدر، حالة التحقق – افتراضية على لقطات البث. من شأن قناة مُسجلة مُباشرة تربط اليونيفيل والقوات المسلحة اللبنانية والمُحررين أن تُتيح تسجيلات فورية وحقيقية للأحداث في الجنوب، مما يُقلل من مساحة انتشار الشائعات دون الانحراف إلى المُناصرة. كما تتحمل المنصات مسؤوليات مُتناسبة مع نفوذها. خلال التصعيدات، يُمكن للخلاف المؤقت حول إعادة توجيه الرسائل في المناطق المُتأثرة أن يُخفف من انتشار الفيروس دون فرض حظر شامل. إن وجود طواقم إدارة الأزمات ذات الكفاءة العربية الشامية ليس ترفًا، بل ضرورة عملية. إن الشفافية حول مبررات الإزالة، حتى وإن كانت جزئية، تكتسب أهمية أكبر في بلد صغير ذي شبكات واسعة منها في سوق قارية؛ فالغموض يُغذي نفس الروايات التي يروج لها مُروّجو التضليل. ينبغي على صانعي السياسات، من جانبهم، اعتبار الإسناد أداةً للردع. فعندما تستهدف جهات مرتبطة بالدولة المدنيين اللبنانيين بحملات ترهيب، فإن الإسناد العلني الجزئي يرفع تكلفة التكرار. إن الاستثمار المتواضع في التربية المدنية السيبرانية – وحدات دراسية مدتها ساعتان، تعتمد على الهاتف، ومُدمجة في المدارس والبلديات – يُحقق عوائد مُضاعفة من خلال تطبيع الشكوك، لا السخرية. الهدف ليس خلق محققين هواة، بل رفع مستوى ما سيشاركه المواطن دون تفكير. إن معركة المعلومات في لبنان ليست حدثًا جانبيًا؛ إنها الساحة التي تُشكل تدفقات الإجلاء، ووصول المساعدات، والنطاق الدبلوماسي. والفوز فيها لا يعني التفوق على مُروّجي الدعاية. هذا يعني بناء دوائر صغيرة وسريعة وموثوقة من الحقيقة، تتفوق على
كيف أصبحت “حقوق الإنسان” سلاحًا غربيًا؟

مقال كلارينبرغ بمناسبة الذكرى الخمسين لاتفاقيات هلسنكي، يستكشف كيف حوّل الغرب مفهوم “حقوق الإنسان” إلى أداة للتخريب وتغيير الأنظمة والتدخل. في ظلّ تطوّر مشهد الحرب السياسية والإعلامية، غالبًا ما استُخدمت الروايات المحيطة بـ”حقوق الإنسان” لتشكيل الشرعية ونزع الشرعية عن الخصوم. في مقال نُشر بمناسبة ذكرى اتفاقيات هلسنكي، يطرح الصحفي الاستقصائي كيت كلارينبرغ فرضيةً استفزازيةً مفادها أن الغرب استولى على “حقوق الإنسان” بعد عام ١٩٧٥، محولًا إياها من مبدأ عالمي إلى سلاح سياسي. فمن خلال تفضيل الحريات المدنية والسياسية مع تجاهل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وبتضمين هيئات رقابية داخل مجتمعات الكتلة الشرقية، يُصوَّر الغرب على أنه دبّر حصان طروادة ساهم في سقوط الاتحاد السوفيتي وحلفائه في نهاية المطاف. يقوم هذا التحليل بتفكيك حجة كلارينبيرج، ووضعها ضمن الذخيرة الاستراتيجية الأوسع للتخريب في الحرب الباردة، ويدرس آثارها على بيئة المعلومات اليوم. تحليل سردية “السلاح الغربي” يُسلّط كلارينبرغ الضوء على كيفية تركيز وثيقة هلسنكي الختامية على حريات التعبير والتجمع والتنقل، مع استبعاد الضمانات الأساسية للأنظمة الاشتراكية، مثل السكن والتوظيف والتعليم. وقد ساهم هذا التركيز في ترسيخ إطار حقوقي متمركز حول الغرب. إنشاء آليات الرصد يتتبع كلارينبرغ صعود منظمة “هيلسنكي ووتش” (التي أصبحت لاحقًا هيومن رايتس ووتش)، التي راقبت امتثال الكتلة الشرقية، وأقامت علاقات مع الجماعات المنشقة، ونشرت النتائج عالميًا. في المقابل، لم يُتوخَّ أي إشراف متبادل على الولايات المتحدة أو دول حلف شمال الأطلسي. شبكات المنشقين والدعم الغربي يُفصّل المقال كيف تطورت حركة “التضامن” في بولندا وميثاق 77 في تشيكوسلوفاكيا إلى حركات جماهيرية مدعومة بمساعدات غربية سرية. ويستشهد كلارينبرغ بتوجيهات الأمن القومي الأمريكية التي رُفعت عنها السرية، والتي كلّفت واشنطن صراحةً بتخفيف السيطرة السوفيتية، وتعزيز التحرير، وإعادة دمج أوروبا الشرقية في النظام الغربي. يؤكد كلارينبرغ أن سقوط الشيوعية لم يُتبع بازدهار شامل، بل بتحولات اقتصادية صادمة. وقد أدت الخصخصة السريعة إلى البطالة، وعدم المساواة، وانعدام الأمن الاجتماعي، وهو ما اعتبره إطار “حقوق الإنسان” الغربي خارج نطاقه. تعليق تفسيري يعكس بناء كلارينبرغ للسردية عدة أساليب للتضليل والتأطير: التكافؤ الزائف: تُقدّم الضمانات الاجتماعية للكتلة الشرقية على أنها مساوية أو متفوقة على الحقوق المدنية الغربية، متجاهلةً القمع المنهجي وغياب التعددية. الانتقائية والحذف: يُشدد على الدعم الغربي للمعارضين بشدة، مع التقليل من شأن دور النشطاء المحليين على مستوى القاعدة الشعبية، والسيطرة الخانقة للأنظمة الشيوعية. التأطير العاطفي: من خلال ربط “حقوق الإنسان” مباشرةً بخيبة أمل التسعينيات، يُثير السرد الحنين والاستياء، مُصوّرًا الغرب على أنه مُتلاعب ومنافق. دليل الغرب الجيوسياسي يُصوّر كلارينبرغ عملية هلسنكي كاستراتيجية غربية متعمدة للحرب السياسية: نزع الشرعية: من خلال تدوين الحقوق بشكل انتقائي، تمكن الغرب من توجيه الاتهامات إلى خصومه مع تحصين نفسه من التدقيق. الاستغلال: أصبحت الجماعات المنشقة أدوات للنفوذ الغربي، مدعومة بالمطابع ومعدات الاتصالات والأموال السرية. تعزيز الديمقراطية كأداة للتدخل: وجّهت البرامج الأمريكية ملايين الدولارات لدعم الحركات التي أطاحت في نهاية المطاف بالحكومات الشيوعية. الهدف الاستراتيجي: أكدت التوجيهات التي رُفعت عنها السرية هدف دمج أوروبا الشرقية في النظام السياسي والاقتصادي الغربي، مما أدى إلى تقويض نطاق نفوذ موسكو. تعليق تفسيري يُصوّر هذا السرد “حقوق الإنسان” كشكل مبكر من أشكال الحرب المعرفية والسياسية. ويشير إلى أن القوة الأخلاقية للحقوق استُخدمت لنزع الشرعية عن الخصوم، وزعزعة استقرار الأنظمة، ودفع عجلة التحول النظامي بما يتماشى مع المصالح الأمريكية. وبإخفاء التخريب بلغة الأخلاق، طمس الغرب الخط الفاصل بين المناصرة والتدخل. الخاتمة يُعيد مقال كيت كلارينبرغ صياغة اتفاقيات هلسنكي كنقطة تحول في تسليح حقوق الإنسان. فمن خلال تفضيل الحقوق المدنية والسياسية مع استبعاد الضمانات الاجتماعية والاقتصادية، يُصوّر الغرب على أنه بنى إطارًا أيديولوجيًا لزعزعة الاستقرار، استغله شبكات المعارضة والتمويل السري، مما أدى إلى انهيار الكتلة الشرقية. الخلاصة هذه الرواية مقنعة لأنها تمزج بين الحقيقة الأرشيفية – التوجيهات الأمريكية، والتمويل السري، ونتائج العلاج بالصدمة – مع إغفالات تمحو القمع المتفشي، والرقابة، وانعدام الحريات التي ميّزت الحياة في ظل الأنظمة الشيوعية. بالنسبة لمجتمع الدفاع اليوم، الدرس واضح: لا يزال خطاب حقوق الإنسان ساحةً متنازعًا عليها في حرب المعلومات. يمكن لإعادة التفسيرات التاريخية أن تنزع الشرعية عن نظام ما بعد عام ١٩٨٩ وتعزز الروايات الاستبدادية المضادة. يتطلب الدفاع الفعال دمج الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية للحقوق لمنع الخصوم من استغلال اتهامات النفاق. في عصر الصراع المعرفي، أصبح التاريخ نفسه سلاحًا. لا تتطلب مواجهة هذه الروايات تصحيحًا للوقائع فحسب، بل تتطلب أيضًا إعادة تأكيد إطار عمل متسق وعالمي لحقوق الإنسان – إطار لا يستطيع الخصوم إعادة صياغته بسهولة كأداة للهيمنة. يوضح تسليح “حقوق الإنسان” كيف يمكن إعادة توظيف حتى أنبل المفاهيم كأدوات للسلطة. بإعادة صياغة هلسنكي كهجوم سري بدلاً من تسوية دبلوماسية، تسعى هذه الرواية إلى تقويض الثقة في الشرعية الغربية وتصوير الترويج للديمقراطية على أنه مجرد واجهة للطموح الإمبريالي. هذه التفسيرات الجديدة، وإن كانت مقنعة للجماهير المُحبطة، إلا أنها تُخاطر بإخفاء الواقع المُعاش للقمع في ظل الكتلة الشرقية وإضعاف المطالبة العالمية بالحقوق نفسها. بالنسبة لصانعي السياسات ومجتمعات الدفاع، لا تقتصر المهمة على كشف تواريخ انتقائية فحسب، بل تشمل أيضًا إثبات التماسك بين القيم والممارسات. فقط من خلال الاتساق، ودمج الحريات السياسية مع الحماية الاجتماعية والاقتصادية، يُمكن للديمقراطيات تحييد التضليل العدائي والحفاظ على مصداقية النظام الدولي في عصر أصبح فيه التاريخ نفسه ساحة معركة.
تقرير: أمن البيئة المعلوماتية في لبنان

دراسة البيئة المعلوماتية في لبنان أُعدَّ هذا التقرير في إطار مشروع “الباتروس 2 – منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – مكافحة المعلومات المضللة والتهديدات المعلوماتية للقيم والمؤسسات الديمقراطية، التي تضر بالعلاقات الدولية وتؤثر سلبًا على صورة بولندا في لبنان والعراق ومصر.” وهو دراسة حول تأثير المعلومات المضللة والدعاية على مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويتضمن تقريرًا، واستراتيجيات دفاع، وتطبيق توصيات. يقدم هذا التقرير تحليلًا شاملًا للبيئة المعلوماتية اللبنانية والسياق السياسي والاقتصادي، مع الأخذ في الاعتبار المحددات الإقليمية والدولية الرئيسية. يتكون التقرير من عشرة فصول يناقش فيها، من بين أمور أخرى، هيكل وسائل الإعلام التقليدية (التلفزيون، والصحافة، والإذاعة) والحديثة (الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي)، ودور المنظمات غير الحكومية والجهات غير الحكومية في تشكيل الرأي العام، بالإضافة إلى تأثير الشركات والمؤسسات على توزيع المحتوى. يشكل استعراض عادات الحصول على المعلومات لدى المجتمع اللبناني وتحليل الحساسيات الاجتماعية والنفسية، خاصة في سياق الانقسامات الطائفية والدينية وعدم الاستقرار السياسي، جزءًا مهمًا من التقرير. في الأجزاء التالية من التقرير، تم التركيز على رصد وتقييم الآليات التلاعبية والخطابات الدعائية التي تتبناها مختلف المراكز المحلية والخارجية (بما في ذلك الروسية والصينية)، سواء تجاه عموم المجتمع اللبناني أو فيما يتعلق بمسائل مختارة، مثل تصورات الغرب أو بولندا. تتيح دراسة الحالة، الواردة في الفصول الأخيرة، فهم كيفية بناء وتعزيز الروايات التي تزعزع استقرار الوضع السياسي والاجتماعي في لبنان. ويكتمل التقرير بتوصيات حول الأشكال الممكنة لمكافحة المعلومات المضللة والتلاعب، خاصة في ظل التوترات العسكرية المستمرة في المنطقة والأزمة الاقتصادية العميقة. قم بتنزيل التقرير الكامل هنا تشير المعلومات والتحليلات المقدمة في التقرير إلى أن الوضع في لبنان يتميز بمستوى عالٍ من عدم الاستقرار، على المستويين السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إن ديناميكية النزاع الملحوظة على الحدود الجنوبية، ومشاركة مختلف الجهات الخارجية، وغياب الإصلاحات الداخلية، تعيق بشكل كبير عمل الدولة، في حين أن السيطرة على تدفق المعلومات غالبًا ما تخضع لتأثيرات اللاعبين الإقليميين والعالميين. ونتيجة لذلك، يتم تعزيز المواقف الطائفية، وانتشار نظريات المؤامرة، وتصاعد الخطاب العدائي تجاه الخصوم السياسيين والأقليات. إن تحليل البيئة الإعلامية اللبنانية، الذي أُجري في الفصول الفردية، يشكل قاعدة معرفية مهمة لكل من صانعي القرار والمراقبين المنخرطين في شؤون المنطقة. إن فهم آليات التأثير الدعائي وتحديد النقاط الاجتماعية-الثقافية والسياسية الحساسة في لبنان هو مفتاح لتصميم استراتيجيات فعالة لمواجهة المعلومات المضللة والتلاعب. يمكن أن يكون التقرير أيضًا نقطة انطلاق لمزيد من التحليلات في مواجهة الأزمة السياسية والأمنية المستمرة والمشاكل الاقتصادية المتزايدة في الدولة، التي لعبت دورًا مهمًا على خريطة الشرق الأوسط لعقود.