Alshafafya Szaffaf/szaffafiat

دراسة البيئة المعلوماتية مصر

تم إعداد هذا التقرير ضمن إطار مشروع “ألباتروس 2 – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – مكافحة التضليل المعلوماتي والتهديدات المعلوماتية للقيم والمؤسسات الديمقراطية، التي تضر بالعلاقات الدولية وتؤثر سلباً على صورة بولندا في لبنان والعراق ومصر”. دراسة تأثير التضليل المعلوماتي والدعاية على مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – تقرير واستراتيجيات دفاع وتطبيق التوصيات. يمثل هذا التقرير تحليلاً متعدد الأوجه للبيئة المعلوماتية المصرية. وهو يتألف من فصول مستفيضة تعرض، من بين أمور أخرى، هيكل وخصائص وسائل الإعلام المصرية (التقليدية والحديثة)، والعادات المعلوماتية للمجتمع، والظروف الاجتماعية والثقافية التي تشكل استقبال الرسائل الإعلامية في مصر. كما تم تحليل مختلف أشكال التأثير الخارجي على الرأي العام والتقنيات والتكتيكات المستخدمة للتلاعب والدعاية، بما في ذلك العمليات النفسية الموجهة ضد الغرب وبولندا على حد سواء. تتضمن فصول التقرير المختلفة، من بين أمور أخرى، توصيفاً للجهات الفاعلة المهيمنة في المشهد الإعلامي المصري (الحكومية، والخاصة، والإقليمية، والتابعة لجماعات سياسية أو دينية معينة، وكذلك الأجنبية)، وتحليلاً للعادات المعلوماتية للمجتمع (مع تصنيف حسب الفئات العمرية والاختلافات العرقية والدينية)، بالإضافة إلى استعراض للمجالات الرئيسية للتأثير الخارجي، مثل الاقتصاد والجغرافيا السياسية أو القضايا الأيديولوجية. وتضمنت المادة المشمولة بالتقرير أمثلة على سرديات وأشكال محددة للإقناع، مع الإشارة إلى الآليات الدعائية التفصيلية (بما في ذلك الروسية والصينية) التي تؤثر على الرأي العام المصري. ويستكمل التقرير فصول مخصصة، من بين أمور أخرى، للمحددات النفسية والاجتماعية لعمل المتلقي المصري للرسائل الإعلامية، بالإضافة إلى دراسات حالة مختارة توضح كيفية بناء ونشر السرديات الموجهة ضد الغرب أو بولندا. يتيح التقرير الحصول على صورة شاملة للتحديات الحالية المتعلقة بالوصول إلى معلومات موثوقة في مصر، والاتجاهات التي قد تكون ذات أهمية للمراقبين والمحللين في سياق تكوين الرأي العام في هذا البلد. يشير التحليل الذي تم إجراؤه إلى أن البيئة المعلوماتية المصرية شديدة التنوع وتخضع لسيطرة كبيرة من قبل أجهزة الدولة وجماعات مصالح مختارة. وفي موازاة ذلك، يتزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام عبر الإنترنت، التي أصبحت جذابة بشكل خاص للجيل الأصغر سناً، الأكثر انفتاحاً على أشكال الاتصال الجديدة والتوجهات الدولية. ومما يلفت الانتباه أيضاً قابلية المجتمع للتأثر بالسرديات الدعائية أو المضللة، خاصة في سياق السياسة الخارجية، مما يساهم في ترسيخ عدم الثقة تجاه الغرب وحلفائه. يصف التقرير بشكل شامل الروابط بين وسائل الإعلام والجماعات السياسية والدينية والعرقية، كما يأخذ في الاعتبار ظواهر الهجرة وقضايا اللاجئين، التي تؤثر بشكل إضافي على الاستقرار المعلوماتي والاجتماعي في البلاد. تبرهن الأمثلة المقدمة للسرديات الروسية والصينية ووصف التكتيكات المستخدمة على أن مصر تظل منطقة رئيسية لعمليات التأثير الدولية. من وجهة نظر الباحثين وصناع القرار، توفر هذه الدراسة معرفة تتيح فهماً أفضل للعمليات المعلوماتية الجارية في هذه الدولة، وتساعد في تطوير استراتيجيات لمكافحة التضليل المعلوماتي والتلاعب، التي تعرقل التقييم الدقيق للوضع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

من المهندسين على ضفاف النيل إلى المستقبل المشترك: تاريخ التعاون الاقتصادي بين بولندا ومصر

يعود تاريخ العلاقات الاقتصادية بين بولندا ومصر إلى عدة قرون. فمنذ العصور الحديثة، بدأ البولنديون يظهرون على ضفاف النيل كحرفيين وتجار ومتخصصين فنيين، ومع مرور الزمن أصبحوا جزءًا من مسيرة تحديث البلاد. ومن تجارة القطن والتوابل إلى بناء المصانع والجسور والمدارس الفنية، تطورت العلاقات الاقتصادية بين الشعبين من مبادرات فردية محدودة إلى روابط مؤسسية راسخة. التجار والحرفيون والروّاد تعود أولى آثار الوجود الاقتصادي البولندي في مصر إلى القرن السابع عشر. وتشير المصادر إلى دوروتا فالا من تارزيميهوف في سيليزيا أوبولسكا، التي بين عامي 1630 و1682 أقامت علاقات تجارية مع مدينة السويس، واشتغلت في تجارة الرقيق، إذ كانت تصل عبر السويس إلى السودان لتجلب العبيد منه. كما عُرفت بولندية أخرى باسم ريجينا سالوميا بيلشتينوفا (من عائلة روسيتسكي)، التي عاشت بين عامي 1718 و1760، وكانت تعمل في تجارة الرقيق أساسًا في تركيا، وتذكر بعض المصادر أنها زارت مصر، غير أن الوثائق لا توضح ما إذا كانت زيارتها بصفة “سيدة أعمال” أم “حاجّة” إلى الأراضي المقدسة، إذ يُعرف أنها أدت الحج إلى هناك. وفي القرن التاسع عشر، كان ستيفان ماروشينسكي، القادم من كراكوف، يعمل في الإسكندرية بين عامي 1880 و1888 في مجال شحن القطن إلى الأسواق الأوروبية. أما في القاهرة، فعمل يوليوس ديمر القادم من لفيف بين عامي 1908 و1910. كذلك كانت في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية شركات تجارية تديرها عائلات يهودية من أصول بولندية، من بينها أبراهام بريس من برزيمشل وأقاربه سولومون يوسف ويعقوب وشوليم مع أسرهم. وتشير الوثائق أيضًا إلى وجود عائلات يهودية جاءت من بلدات مثل شفياتينيا، شتشيريتس، موستيسكا، نادوفرنا، غرودك، بوتشاتش، وستانيسوافوف. وفي القاهرة، كانت هناك جالية يهودية تعمل في تجارة الورق، من أبرزها ليب وماركوس روزنفيلد من ياروسواف، وكذلك ماكس روزنفيلد الذي كان موظفًا في شركة “Papeterie et Imprimerie”. أما مجال التأمين، فكان يديره في أوائل القرن العشرين ألبرت بينكاسفيلد القادم من كراكوف. ولم يقتصر الوجود البولندي على التجارة، إذ توافد إلى مصر أيضًا عدد من الحرفيين والمهندسين العسكريين بعد فشل الانتفاضات الوطنية في بولندا. وقد التحق بعضهم بالجيش المصري أو عملوا في مشاريع هندسية، حيث كانت خبراتهم في مجال التحصينات والمساحة والهندسة الهيدروليكية محل تقدير كبير في دولة محمد علي. مهندسو تحديث مصر بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، أصبحت مصر مركزًا للاستثمارات الحديثة. ومن بين آلاف الأجانب الذين عملوا في هذا المشروع الضخم، كان هناك أيضًا بولنديون – مهندسون ومسّاحون وفنيون شاركوا في أعمال المسح الميداني وبناء الجسور والطرق. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عمل على ضفاف النيل ميتشيسواف جينيوش، خريج مدرسة الطرق والجسور في باريس، الذي تولى إدارة قسم المياه العذبة في شركة بناء قناة السويس. وقد عمل في الإسماعيلية وبورسعيد، وكانت خبراته في مجالي الهيدرولوجيا والبنية التحتية من أوائل الأمثلة على نقل المعرفة التقنية البولندية إلى مصر. وفي الوقت نفسه، شارك مهندسون بولنديون آخرون في القياسات الهيدروليكية وفي تطوير أنظمة الري في دلتا النيل. كما ساهم المتخصصون البولنديون في تحديث شبكة السكك الحديدية. وقد تميزت أنشطتهم بكونها لم تُبنَ على أهداف توسعية اقتصادية، بل على التعاون العلمي والتقني القائم على الاحترام والثقة المتبادلين. بين الحربين العالميتين – الجالية الاقتصادية البولندية في مطلع القرن العشرين بدأت في القاهرة والإسكندرية تتشكل جالية بولندية مهنية ضمّت مهندسين وأطباء ورجال أعمال. وفي عام 1915 تأسست جمعية الضريبة الطوعية للبولنديين وأصدقاء بولندا ومصر، وكان رئيسها مدير المصانع الكيميائية في المنصورة كارول ميغورسكي. وفي عام 1917 بدأت الجمعية في إصدار نشرتها الخاصة. وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين بدأ تدفق المتخصصين البولنديين إلى مصنع الزجاج المصري في ياسين بك قرب القاهرة، حيث تم توظيفهم بموجب عقود حكومية بوساطة جمعية الهجرة في وارسو. كما تمركز عدد كبير من الخبراء البولنديين في بلدة حلوان، حيث تولوا تدريب الشباب المصري للعمل في مصنع الزجاج، مساهمين في نقل المعرفة الصناعية إلى الأجيال الجديدة. الحرب والتضامن على ضفاف النيل خلال الحرب العالمية الثانية، كانت مصر قاعدة استراتيجية أساسية لقوات الحلفاء في إفريقيا. وقد تمركزت فيها وحدات من القوات المسلحة البولندية في الشرق، إلى جانب مدارس شبابية ومراكز طبية. عمل البولنديون في الموانئ والمصانع التقنية، فيما حافظت الصحف والإذاعات البولندية في الإسكندرية والقاهرة على الروابط الوطنية. كما وجد العديد من المهندسين والأطباء البولنديين الذين مرّوا عبر فارس وفلسطين فرص عمل في المستشفيات والمدارس والمكاتب الفنية المصرية، مسهمين في إعادة الإعمار والحياة الاجتماعية في البلاد. وبهذا اكتسب التعاون الاقتصادي بين البلدين بعدًا إنسانيًا واجتماعيًا. عصر الشراكة – البولنديون في بناء مصر الحديثة بعد عام 1956، عندما أقامت بولندا الشعبية ومصر علاقات دبلوماسية كاملة، ازدهر التعاون الاقتصادي في إطار روح جديدة من التضامن بين الدول النامية. وبدأ تنفيذ عقود لتوريد منشآت صناعية رئيسية، ومعها وصل إلى مصر عدد من الخبراء البولنديين في إطار عقود علمية وتقنية فردية. وفي عام 1956 وصل إلى مصر اثنا عشر طيارًا بولنديًا للملاحة البحرية كانت مهمتهم توجيه السفن عبر قناة السويس التي أُعيد تأميمها حديثًا. وفي عام 1965 منحت بولندا مصر عدة قروض، تلتها استثمارات شملت تجهيز 17 مصنعًا مصريًا لمواد البناء. بنى البولنديون في مصر مصنع الأنيلين والأصباغ، ومصنع وصلات الأنابيب، ومصنع أدوات القطع، ومصنع الطوب السيليكاتي، ومسبك الحديد الزهر في حلوان، وحتى الجسور. وقد أشرفت على هذه المشاريع الهيئة المركزية لتصدير المنشآت الصناعية الكاملة (CEKOP). وسافر إلى مصر أكثر من 150 خبيرًا بولنديًا، فيما تلقى نحو 100 مصري تدريبًا في مصانع “بوروتا” في مدينة زغيرش. كما شاركت بولندا في توريد القاطرات وعربات السكك الحديدية، وسيارات “نيسا” و”زوك”، وحافلات “أوتوسان”، والمعدات الزراعية. كما جرى تجميع سيارات “بولونيز” و”فيات 125″ في مصر باستخدام قطع بولندية. وقد نفذ الخبراء البولنديون أيضًا عمليات زراعية جوية لمكافحة آفات القطن. وفي الوقت نفسه، ازدهر التبادل العلمي، إذ درس الطلاب المصريون في الجامعات التقنية البولندية، فيما ألقى الأساتذة البولنديون محاضرات في القاهرة والإسكندرية. وهكذا أصبحت العلم والتكنولوجيا أحد أعمدة التعاون الاقتصادي بين البلدين. بداية جديدة بعد عام 1990 بعد التحول السياسي في بولندا، اكتسبت العلاقات الاقتصادية بين بولندا ومصر طابعًا سوقيًا كاملًا، وأصبحت ديناميكيتها تعكس الاحتياجات الفعلية لاقتصادي البلدين. وتركز بولندا اليوم على تصدير المنتجات الصناعية والآلات والمعدات الميكانيكية والكهربائية، التي تشكل إحدى الفئات الرئيسة في مبيعاتها إلى السوق المصري. كما تحتل المنتجات الزراعية والغذائية مكانة مهمة، بما في ذلك التفاح والحبوب ومشتقات الألبان واللحوم، وهي سلع تحافظ على طلب مرتفع من قبل المستوردين المصريين. وتزداد أهمية المنتجات الكيميائية، وخاصة الأسمدة ومستحضرات التجميل والأدوية، إلى جانب المنتجات المعدنية وقطع غيار وسائل النقل. أما مصر، فتصدر إلى بولندا في المقام الأول المنتجات الزراعية والغذائية مثل الحمضيات والفراولة والخضروات والمكسرات، التي تشكل الجزء الأكبر من الواردات البولندية من هذا

النطاق الاستراتيجي لاستقرار مصر: البعد البولندي للتعاون في مجال الأمن

تعتبر بولندا استقرار مصر عنصرًا أساسيًا للأمن الإقليمي والعالمي، وتنظر إلى التعاون بين البلدين في إطار شامل. كما أكد وزير الخارجية البولندي السابق ياك تشابوتوفيتش عام 2019، تُعدّ مصر أحد أهم شركاء بولندا في إفريقيا والعالم العربي. خلال العقود الأخيرة، واجهت مصر أحداثًا إقليمية مضطربة، بدءًا من نشاط التنظيمات الإرهابية في شبه جزيرة سيناء، مرورًا بالنزاعات في الدول والمناطق المجاورة مثل ليبيا والسودان وقطاع غزة. وقد أظهرت هذه التجارب أن التحديات الأمنية يجب أن تُفهم بصورة شاملة، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا من الجوانب الدبلوماسية والإنسانية. فالتنظيمات المتطرفة غالبًا ما تستغل حالة عدم الاستقرار والسخط الاجتماعي والأزمات الإنسانية لكسب التأييد. ولهذا السبب، نظرت بولندا بطبيعة الحال إلى دعم مصر ومنطقتها بوصفه جزءًا من استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار، مع فهم واضح بأن العمليات العسكرية يجب أن تُدمج بالمساعدات المدنية من أجل قطع جذور التطرف. عندما وسّع تنظيم داعش وغيره من المقاتلين نطاق نشاطهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم يكن التهديد موجهًا إلى المجتمعات المحلية فحسب، بل إلى السلام الدولي أيضًا. وقد تعاملت كل من القاهرة ووارسو مع هذا التهديد بجدية. وأعربت بولندا عن تقديرها “للدور الريادي الذي تضطلع به مصر في شمال إفريقيا والشرق الأوسط” في معالجة مثل هذه الأزمات. ورغم أن بولندا ومصر شغلتا عضوية غير دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فترات مختلفة (مصر بين عامي 2016–2017، وبولندا بين عامي 2018–2019)، فإن البلدين تبنيا أولويات متقاربة في مجال الأمن الدولي. فقد شددت كل من القاهرة ووارسو على أهمية احترام القانون الدولي، ومنع النزاعات، ومكافحة الإرهاب، ودعم عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد ساهم هذا التقارب في المواقف في تعزيز التعاون بين البلدين ضمن إطار الأمم المتحدة ومن خلال الحوار الثنائي. التعاون التنموي والإنساني بين بولندا ومصر يشمل التعاون بين بولندا ومصر في مجال الأمن البعدَين التنموي والإنساني، ويتم تنفيذه في إطار برنامج “المساعدة البولندية” (Polska Pomoc). وتعكس هذه الجهود مبدأ التضامن الدولي وتندرج ضمن أهداف سياسة التعاون الإنمائي لبولندا، كما حددها قانون التعاون الإنمائي الصادر في 16 سبتمبر 2011، وكذلك البرنامج متعدد السنوات للتعاون الإنمائي 2021–2030 بعنوان “التضامن من أجل التنمية”. ورغم أن مصر لا تندرج ضمن قائمة الدول ذات الأولوية في هذا البرنامج، فقد استفادت من عدد من المشاريع التنموية الممولة من وزارة الخارجية البولندية. ومن الأمثلة على ذلك المشروع الذي نفذته السفارة البولندية في القاهرة عام 2022، والذي تم من خلاله تمويل تجهيز معمل حاسوب لمدرسة القديس مارك للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. كان الهدف من المشروع تقليص الفجوات التعليمية وتحسين فرص الوصول إلى أساليب التعليم الحديثة للأطفال المصابين بمتلازمة داون والإعاقة الذهنية. وعلى الرغم من أن هذه المبادرات محدودة النطاق، فإنها تندرج ضمن الاستراتيجية البولندية التي تربط التنمية الاجتماعية بالوقاية من النزاعات. تركز السياسة البولندية للتعاون الإنمائي، وفقًا للبرنامج متعدد السنوات، على دعم التعليم والصحة وتكافؤ الفرص والإدارة الرشيدة والسلام وبناء مؤسسات قوية. وفي هذا السياق، تندرج المشاريع المنفذة في مصر – مثل تلك الموجهة إلى فلسطين – ضمن الهدف الأوسع المتمثل في بناء الاستقرار الاجتماعي والمؤسسي في منطقة الشرق الأوسط. تلعب بولندا ومصر أدوارًا متكاملة في مواجهة الأزمات الإنسانية في منطقة شمال شرق إفريقيا والشرق الأوسط. فبولندا، التي تعمل أساسًا من خلال آليات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تقدم دعمًا ماليًا للمبادرات الهادفة إلى مساعدة المدنيين المتضررين من النزاعات في السودان وجنوب السودان وقطاع غزة. وخلال السنوات الأخيرة، قدمت وارسو تمويلًا لصالح المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، إضافة إلى تمويل مشاريع تنموية ضمن برنامج “المساعدة البولندية”. ويُنفذ جزء من هذه الأنشطة لوجستيًا من الأراضي المصرية، التي أصبحت أحد المراكز الرئيسة للمساعدات الإنسانية في المنطقة، وقاعدة تشغيلية للوكالات الأممية التي تقدم الدعم للسكان الفلسطينيين. أما مصر، كونها دولة مجاورة لمناطق الأزمات في السودان وغزة، فتؤدي دورًا محوريًا كمضيف للاجئين ومنسق للمساعدات الدولية. وتُعدّ الهياكل العاملة في القاهرة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية – بما في ذلك منظمة “كاريتاس بولندا” التي تنفذ برامج تعليمية للاجئين من إريتريا والسودان – مثالًا على التعاون بين المساعدات التنموية والإنسانية. وبهذا الشكل، تسهم بولندا من خلال دعم الجهود المصرية وتمويل الأنشطة التي تنفذها المؤسسات الدولية، في تخفيف العبء عن مصر في رعاية اللاجئين وتعزيز الاستقرار الإنساني في المنطقة بأسرها. الحد من الهجرة غير الشرعية والأزمات الإقليمية تواجه كلٌّ من بولندا ومصر تحديات متشابهة في مجال الهجرة، تجمع بين قضايا الأمن والبعد الإنساني والاستقرار الاجتماعي. فمصر، الواقعة عند نقطة التقاء إفريقيا والشرق الأوسط، تُعدّ من الدول الرئيسة المستضيفة للاجئين، في حين تُعدّ بولندا دولة حدودية للاتحاد الأوروبي تتأثر بتداعيات الهجرة القادمة من مناطق النزاعات. ويتفق البلدان على أن الحد من الهجرة غير الشرعية يتطلب دعم الاستقرار والتنمية في بلدان منشأ اللاجئين. ومن هذا المنطلق، تُكمل جهود بولندا ضمن برامج الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة الإنسانية، مساعيَ مصر في مراقبة الحدود وتقديم المساعدة للاجئين، في تحقيق هدف واحد هو التخفيف من آثار الأزمات الإقليمية. ومن الأمثلة العملية على ذلك مشاركة بولندا في بعثات الاتحاد الأوروبي البحرية في البحر الأبيض المتوسط. فقد شاركت بولندا في عملية الاتحاد الأوروبي البحرية “صوفيا” (EUNAVFOR MED Sophia) خلال الأعوام 2018–2020، والتي هدفت إلى مكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر في البحر الأبيض المتوسط ودعم خفر السواحل الليبي. وبعد انتهاء هذه المهمة في 31 مارس 2020، واصلت بولندا مشاركتها في العملية التي خلفتها – “إيريني” (EUNAVFOR MED Irini) – التي تركز على تنفيذ حظر السلاح الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا. ومن خلال قوة قوامها نحو 120 جنديًا وطائرة استطلاع من طراز “بريزا”، تدعم بولندا جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى استقرار ليبيا والحد من الجريمة العابرة للحدود. وعلى الرغم من أن بولندا ومصر لا تشاركان في بعثات مشتركة، فإن أنشطتهما تكمل بعضها البعض: فالقاهرة تؤمّن حدودها ومياهها الإقليمية في جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط، بينما تشارك وارسو في عمليات الاتحاد الأوروبي في جزئه الغربي. وبهذه الطريقة، يسعى البلدان إلى هدف مشترك يتمثل في تعزيز أمن المنطقة وتقليص مصادر عدم الاستقرار التي تؤثر على كلٍّ من أوروبا وشمال إفريقيا. كما تتبنى بولندا ومصر مواقف متقاربة إزاء ظاهرة استغلال الهجرة والاتجار بالبشر لأغراض سياسية، وتريان أن أمن الحدود يتطلب الدمج بين الإجراءات الإنسانية والتنموية والإعلامية. ويدعم البلدان المبادرات الدولية الرامية إلى الحد من تهريب الأشخاص ومكافحة المعلومات المضللة المتعلقة بالهجرة. التعاون العسكري والدفاعي يتطور التعاون الدفاعي بين بولندا ومصر بشكل تدريجي، مستندًا إلى الاعتراف المتبادل بدور البلدين في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي. فبولندا تنظر إلى مصر

الإمبريالية والاستعمار – السرديات والحقائق

هذا هو نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور فيتولد ريبيتوفيتش في جامعة هايغازيان في بيروت، لبنان، في 16 تشرين الأول/أكتوبر، خلال المؤتمر بعنوان «أمن الفضاء المعلوماتي: الحوكمة الرشيدة ودولة المواطنة في لبنان». يركّز هذا البحث على بعض السرديات التي تستهدف صورة الغرب في الشرق الأوسط، والتي تقوم على الصور النمطية والتلاعبات المرتبطة بمفهوم «الغرب» نفسه، وكذلك بمفهومي الإمبريالية والاستعمار. يشير الكاتب إلى أنّ مفهوم «الغرب» يخضع لتلاعبٍ سرديٍّ من خلال ترويج المفهوم الروسي المنشأ لما يُعرف بـ «الغرب الجماعي». ويؤكد أن صياغة هذا المصطلح في حدّ ذاتها تمثّل نوعًا من التضليل الإعلامي. ويقدّم استخدام هذا المصطلح في وصف بولندا مثالًا على ذلك، إذ يُراد من خلاله تحميل «الغرب الجماعي» مسؤولية الاستعمار، وكذلك أفعال إسرائيل ضد فلسطين أو لبنان، وبالتالي إلصاق هذه المسؤولية بدول مثل بولندا، رغم أن تجاربها التاريخية وسياساتها الحالية تتناقض تمامًا مع مثل هذه الادعاءات. ويشير الكاتب أيضًا إلى أن روسيا، على الرغم من تقديم نفسها كقوة مناهضة للإمبريالية والاستعمار، كانت على مدى قرون إمبراطورية استعمارية، وهي اليوم تخوض حربًا استعمارية ضد أوكرانيا وتسعى إلى تحقيق طموحاتها الإمبراطورية. ومع ذلك، يلفت الكاتب إلى أن العلاقات بين الشرق والغرب تتأثر أيضًا بالصور النمطية السائدة في الغرب، خصوصًا في ما يتعلق بعدم أخذ السياق الإقليمي بعين الاعتبار في خطط الدمقرطة، وتوقّع نتائج سريعة، وعند غيابها، الاعتقاد بأن الديمقراطية حكرٌ على الغرب، وأن مجتمعات الشرق الأوسط تحتاج إلى حكمٍ سلطوي، وإلا فإنّ القوى الجهادية ستصل إلى السلطة. يُنظر إلى مفهومي الإمبريالية والاستعمار غريزيًا على أنهما مرتبطان بالغرب. ويبدو هذا أمرًا بديهيًا، خاصة في بلدان أوروبا الغربية التي كانت في السابق قوى استعمارية وأصبحت اليوم تعاني من شعورٍ بالذنب، وكذلك في البلدان التي كانت مستعمَرة، والتي تخضع ذاكرتها التاريخية لتلاعبات كثيرة تمنعها من المضيّ قدمًا.وبالطبع، قد يتهمني البعض بأنني أتحدث بسهولة عن تجاوز الماضي الاستعماري لأنني أنتمي إلى الغرب، وأنّ ذلك يعكس نقصًا في التعاطف من جانبي. لكنني أنتمي إلى جزءٍ من الغرب لم يستعمِر أحدًا؛ بل على العكس، فقد كانت بولندا نفسها مُستعمَرة في مرحلة من تاريخها. ولفهم هذه المسألة، يجب أن أبدأ بتعريف مفهومي الإمبريالية والاستعمار، ثم أشرح فكرة ما يُسمّى بـ «الغرب الجماعي».الإمبريالية هي سياسة التوسّع على حساب دولٍ وأممٍ أخرى، وإخضاعها بوسائل عسكرية أو سياسية أو اقتصادية. فالإمبراطورية تسعى دائمًا إلى التمدّد المستمر، أي أنها لا تمتلك حدودًا طبيعية، وتُبرَّر سياسات التوسّع والغزو والإخضاع بذرائع مختلفة، وغالبًا ما تُستند إلى أيديولوجيات محددة. فعلى سبيل المثال، جادل فريدريش راتسل، أحد أبرز ممثلي المدرسة الجغرافية السياسية الكلاسيكية الألمانية في أواخر القرن التاسع عشر، بأن الدولة تشبه الجسد البشري، ويجب أن تمتصّ الأراضي المجاورة لتنمو، تمامًا كما يحتاج الطفل إلى الطعام لينمو. غالبًا ما ترافق الإمبرياليةَ عمليةُ فرض ثقافة الإمبراطورية ولغتها وهويتها في نهاية المطاف على الشعوب المغلوبة.أما الاستعمار، فهو سياسة تقوم على استغلال الأراضي اقتصاديًا واستيطانها من قبل الدولة الغازية، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بالتمييز ضد السكان الأصليين. وكما ذكرت سابقًا، فإن هذين المفهومين يرتبطان غريزيًا بالغرب، وخصوصًا بالسياسة الأوروبية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وبعد مرحلة إنهاء الاستعمار، اتسمت الفترة «ما بعد الاستعمارية» بعلاقاتٍ غير متكافئة. أما الإمبريالية، فقد أصبحت في كثير من السرديات مرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية، التي وُجهت إليها خلال الحرب الباردة اتهاماتٌ بالإمبريالية من قبل الحركات اليسارية، التي كانت في الغالب مدعومة من الاتحاد السوفييتي. وفي الشرق الأوسط، غذّت هذه السرديات دعمَ الولايات المتحدة لإسرائيل. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة عالميًا، ما عزّز السرديات التي تصوّرها كقوةٍ إمبريالية. وفي المقابل، اكتسبت روسيا، كما كان حال الاتحاد السوفييتي سابقًا، في العديد من السرديات صورةَ القوة المناهضة للإمبريالية. غير أن هذا كذبٌ فادح. إذ تختلف روسيا عن القوى الإمبريالية والاستعمارية الغربية في أمرٍ جوهري واحد: فهي، بخلاف تلك القوى، لم تتخلَّ قط عن سياساتها الإمبريالية والاستعمارية. وينطبق الشيء نفسه على الصين. وقبل أن أشرح ذلك، أود أولاً التطرق إلى مفهوم «الغرب الجماعي»، الذي ابتكرته الدعاية الروسية وهو في حد ذاته شكلٌ من أشكال التضليل. فقد استُخدم هذا المصطلح لأول مرة من قبل بوتين في نيسان/أبريل 2021، وسرعان ما روّجت له الدعاية الروسية. ويُستخدم هذا المفهوم أيضًا في الدعاية المعادية للغرب من قبل جهاتٍ متعاطفة مع روسيا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الأستاذ في الأدب الإنجليزي محمد مرندي، وهو إيراني من مواليد الولايات المتحدة وخريج جامعة برمنغهام البريطانية. ومن اللافت هذا التناقض الواضح: أن يسعى المرء إلى التعليم لا في روسيا «المناهضة للإمبريالية» المزعومة، بل في الغرب «الإمبريالي»، ثم يمدح روسيا وينشر السرديات المعادية للغرب. يشنّ مرندي، عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي (المحظورة أصلًا في إيران) وكذلك عبر وسائل الإعلام الغربية – علمًا بأنه من غير الممكن تخيّل أن وسائل الإعلام الروسية أو الإيرانية تستضيف منتقدين لسياستها – حملةً شرسة ضد «الغرب الجماعي»، متهِمًا إياه بالمسؤولية عن «إبادة غزة». إن مفهوم «الغرب الجماعي» يقوم على تعريفٍ متبادلٍ بين عناصره الفردية وكلّيته، وقد اختُرع لتشويه صورة العالم الديمقراطي بأسره عبر إلقاء المسؤولية الجماعية عليه عن أفعال دولٍ فردية (في الماضي والحاضر) تُنظر إليها سلبًا من قبل مجموعاتٍ معينة في الشرق الأوسط. وهكذا يمكن إلصاق الاستعمار بـ«الغرب الجماعي»، وتحميله مسؤولية أفعال إسرائيل، وزعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط، والعنصرية، وغيرها من الاتهامات. وهذه كلها عوامل أساسية تؤثر في الهشاشة العاطفية والمعلوماتية في الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان. هدف روسيا هو تأجيج مشاعر الكراهية تجاه ما تسميه بـ«الغرب الجماعي»، وفي الوقت نفسه تقديم نفسها كقوة مناهضة للاستعمار والإمبريالية، وكحليف موثوق ووحيد. لكن هذا لا يقتصر على التنافس الجيوسياسي فحسب، بل يرتبط قبل كل شيء بالصراع القيمي بين معسكر الديمقراطية والحرية من جهة، والمعسكر الاستبدادي من جهة أخرى، الذي تمثله بالدرجة الأولى القوتان الإمبرياليتان الاستعماريتان المعاصرتان الأكبر: روسيا والصين، إلى جانب دولٍ أخرى مثل إيران وكوريا الشمالية، وحتى وقت قريب، سوريا الأسد. والهدف الحقيقي من ذلك هو ردع اللبنانيين عن التوجه الديمقراطي وعن ما يُسمى «الثورات الملوّنة»، وإقناعهم بأن «الديمقراطية الغربية» ليست سوى كذبة وأداة من أدوات الاستعمار والإمبريالية الغربية.تسعى روسيا، ومعها بقية دول المعسكر الاستبدادي، إلى تقويض مفهوم «العالم الحر» وتشويه المبادرات الداعمة لتطوير الديمقراطية والمجتمع المدني وحكم القانون. في الواقع، هذه إحدى أساليب التلاعب: قلب الأدوار. فبولندا، في هذا المفهوم، تُصوَّر كجزء من «الغرب الجماعي»، لكننا لم نملك يومًا أي مستعمرات، وقد اعترفنا بدولة فلسطين عام 1988. ومن الصعب أن تجد في الفضاء الإعلامي البولندي أي تعبير عن دعمٍ لإسرائيل في أفعالها ضد غزة أو لبنان، بل على العكس تمامًا. وعلى خلاف روسيا، لا يوجد لدينا أوليغارشيون يحملون جنسية مزدوجة، روسية وإسرائيلية،

القبعات الزرقاء البولندية والمساعدات الإنسانية في لبنان

يُرتبط انخراط بولندا في أمن لبنان اليوم أساسًا بوجود الكتيبة العسكرية البولندية ضمن قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، وبالبرامج الإنسانية التي تنفذها المنظمات الإغاثية البولندية. غير أن العلاقات بين البلدين تعود إلى زمنٍ لم يكن فيه أيٌّ منهما دولةً مستقلة. ففي أوائل القرن العشرين، أصبح فلاديسواف تشايكوفسكي، المعروف باسم مظفر باشا، حاكمًا للبنان ضمن الدولة العثمانية، وشغل هذا المنصب من عام 1902 حتى وفاته عام 1907. وفي وقتٍ لاحق، خلال الحرب العالمية الثانية، مرّ الجيش البولندي بقيادة الجنرال فلاديسواف أندرس عبر لبنان بعد إجلائه من الاتحاد السوفيتي في طريقه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية. وقد رافق الجيش عدد من اللاجئين القادمين من الاتحاد السوفيتي الذين وجدوا في لبنان ملاذًا خلال الحرب. في عام 1992، التزمت بولندا بالمساهمة في حفظ أمن لبنان من خلال إرسال كتيبة عسكرية بولندية للمشاركة في بعثة اليونيفيل. وبلغت مساهمة بولندا ذروتها عام 2000، إذ بلغ عدد أفرادها 629 جنديًا وعسكريًا مدنيًا، ما جعلها من بين أبرز الدول المشاركة. في المرحلة الأولى، ركّز الجنود البولنديون على المهام اللوجستية والهندسية والطبية لدعم قوات الأمم المتحدة الأخرى. ولعبت الوحدة الطبية العسكرية البولندية (PolMedCoy) دورًا محوريًا، إذ أنشأت مستشفىً ميدانيًا في الناقورة. وفي عام 1994 أُضيفت كتيبة لوجستية ووحدات هندسية، تلاها عام 1996 فريقٌ مختص بالصيانة. وشملت مهامهم النقل، وتخزين الإمدادات، وصيانة المعدات وإصلاحها، إضافة إلى إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة. تعرّض جنود القبعات الزرقاء البولنديون لإطلاق النار أكثر من مرة. وكانت اللحظات الأولى الصعبة في أبريل 1996 عندما شنّت إسرائيل هجومًا واسعًا على لبنان، إذ قصفت مرارًا مواقع تابعة لليونيفيل كان فيها مهندسون وأطباء ولوجستيون بولنديون. وقدّم الأطباء البولنديون المساعدة الطبية للمدنيين ولجنود الأمم المتحدة، بما في ذلك في محيط قاعدة جُويا التي شهدت اشتباكات عنيفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كما تعرّض الجنود البولنديون لإطلاق النار أثناء تأمين طريقٍ للاجئين. وفي عام 2006، خلال حرب يوليو، تولّت الوحدات البولندية إجلاء السكان من المناطق الخطرة، ونقل الجرحى إلى المستشفيات، وتوزيع الغذاء والدواء على المتضررين، وكان عددهم آنذاك نحو 230 شخصًا. بعد انقطاعٍ لعدة سنوات، عاد جنود القبعات الزرقاء البولنديون إلى لبنان عام 2019، ويبلغ عددهم حاليًا نحو 250 جنديًا. وهم يقومون بدورياتٍ على الخط الأزرق على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، لمراقبة وقف إطلاق النار والحفاظ على الأمن في منطقة الفصل. ومن أهم أهداف المهمة حماية المدنيين في مناطق العمليات. وفي إطار التعاون المدني-العسكري، يقدّمون المساعدة للسكان المحليين ويدعمون القوات المسلحة اللبنانية. وقد برزت أهمية مهمتهم مجددًا خلال الاجتياح الإسرائيلي في أكتوبر ونوفمبر 2024، عندما تعرّضت مواقع القبعات الزرقاء التي تحمي المدنيين للقصف الإسرائيلي. وخلال فترة الخدمة البولندية في لبنان، فقدت بولندا سبعة جنود هناك. المساعدات الإنسانية في لبنانجلبت الانتفاضات العربية (الربيع العربي) تحدياتٍ أمنية جديدة للبنان. فقد شكّل تدفّق أكثر من مليون لاجئ سوري عبئًا هائلًا على البلاد، وكانت المساعدات الدولية ضرورية. ولم تتخلَّ المنظمات البولندية مثل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) والعمل الإنساني البولندي (PAH) وفروع كاريتاس بولونيا وعون الكنيسة المتألمة عن لبنان، بل شاركت في تقديم المساعدات واكتسبت سمعةً بأنها من أكثر المنظمات مهنيةً وفعاليةً وحيادًا. وقد نالت سياسة هذه المنظمات، القائمة على تقديم المساعدات بشكلٍ يعود بالنفع على كلٍّ من اللاجئين السوريين والمجتمعات اللبنانية المضيفة، تقديرًا واسعًا. يعمل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) في لبنان باستمرار منذ عام 2012، ويركّز نشاطه في منطقة عكار شمال البلاد. بدأ عمله عبر برنامج «النقد مقابل السكن» الذي يقوم بدفع إيجارات مساكن اللاجئين السوريين مباشرةً إلى أصحاب العقارات اللبنانيين. ولاحقًا بدأ بدعم ترميم المنازل المتضررة وبناء منازل جديدة لكلٍّ من السوريين والعائلات اللبنانية الفقيرة. ومن برامجه الأخرى «النقد مقابل العمل» الذي يوفّر فرص عملٍ مؤقتة لكلٍّ من اللاجئين والمواطنين اللبنانيين في أعمال البناء والصيانة الصغيرة داخل البلديات. وشارك لبنانيون وسوريون في هذه المشاريع المموّلة من PCPM بالعمل مع علماء آثار بولنديين في أبحاثٍ ميدانية، من بينها قلعة بيريه، مما خلق فوائد إنسانية وعلمية متبادلة. كما يدير PCPM في بلدة بيريه عيادة ثابتة ومتنقلة منذ أكثر من عقد. وتقدّم العيادة خدمات طبية تشمل رعاية الأطفال والنساء، وتوفّر الأدوية التي يصعب الحصول عليها محليًا. وفي عام 2017، قال الشيخ محمد عوض مُرحب من بيريه في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء البولندية: «بعد عام 2012 تواصلنا مع منظماتٍ كثيرة من دولٍ مختلفة جاءت لمساعدة اللاجئين. أنفقت معظمها أموالًا طائلة دون نتائج حقيقية أو دائمة. كان الأمر مختلفًا تمامًا مع PCPM، فهي منظمة تعرف كيف تساعد. كنا نعرف بولندا من كتب التاريخ فقط، أنها بلد غزته ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أما الآن فبولندا تُعرف هنا بالمساعدات الإنسانية، لأنكم تؤدّون هذا العمل أفضل من الألمان أو الفرنسيين أو البريطانيين». أما العمل الإنساني البولندي (PAH)، فقد نشط لسنواتٍ عديدة في لبنان وركّز على مشاريع التنمية طويلة الأمد. فهو يدعم المجتمعات المحلية، وخاصة الشباب والنساء، في تحسين فرصهم في التعليم والعمل، ويُنفّذ مبادراتٍ تهدف إلى زيادة المهارات والاستقلالية في سوق العمل. كما ينفّذ أنشطةً لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال وأسرهم، خصوصًا في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اللاجئون.وتشارك كاريتاس بولونيا أيضًا في تقديم المساعدات، ولا سيما في حالات الأزمات الطارئة التي لا تخلو منها البلاد. الاستجابة للأزماتمن أبرز الأزمات التي واجهتها المنظمات البولندية انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، الذي وقع بعد أشهرٍ قليلة من الانهيار المالي الذي دمّر حياة كثيرٍ من العائلات اللبنانية. وكان من بين المناطق المتضررة حي برج حمود الأرمني في بيروت. وقال أحد ممثلي السلطات المحلية بعد سنوات: «ظهرت منظمات كثيرة آنذاك، لكن لم يكن جميعها يقدّم المساعدة الحقيقية؛ فبعضها استفاد ماديًا من الكارثة. أما PCPM فكان الوضع مختلفًا تمامًا، فقد أظهرت احترافًا مطلقًا، ووصلت المساعدات إلى من يستحقها فعلًا». كما دعم PCPM المستشفيات المحلية في بيروت بالمعدات الطبية ووسائل الحماية الشخصية، ووسّع برنامج «النقد مقابل العمل» ليشمل العاصمة اللبنانية. وشارك رجال الإطفاء البولنديون العاملون مع PCPM في جهود الإنقاذ في برج حمود. كذلك انضمت العمل الإنساني البولندي (PAH) بسرعة إلى جهود الإغاثة، مطلقةً حملة تبرعات خصصت عائداتها لمساعدة المتضررين. وركّزت في المرحلة الأولى على تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء ومستلزمات النظافة، وفي المرحلة التالية على ترميم المباني المتضررة والمساعدة في إعادة الحياة المجتمعية. أما كاريتاس فقد نظّمت المساعدات على شكل طرود غذائية ومياه ومنتجات نظافة ودعم مالي للفئات الأكثر فقرًا، وأسهمت في توفير المأوى المؤقت والرعاية النفسية والاجتماعية، كما موّلت شراء الأدوية والمستلزمات الطبية للضحايا. ومن الأزمات الأخرى التي شكّلت تحديًا للمنظمات البولندية في لبنان العدوان الإسرائيلي على لبنان في أكتوبر ونوفمبر 2024، حيث قدّمت منظمات PCPM وPAH وكاريتاس المساعدة للاجئين من جنوب لبنان بتوفير الإسعافات الأولية والمأوى والغذاء والمياه النظيفة ومستلزمات

الروابط الثقافية بين بولندا والعراق: المتنبي على نهر الفيستولا، وكوخانوفسكي على نهر دجلة

يُعدّ ترجمة الشعر البولندي إلى العربية تحديًا كبيرًا، تمامًا كما هو الحال في ترجمة الشعر العربي إلى البولندية. فالمطلوب ليس فقط الحفاظ على معنى الكلمات، بل أيضًا على الرسالة الكامنة فيها، والأهم من ذلك إيقاع القصيدة وموسيقاها الداخلية. لكن التحديات وُجدت لتُواجه. هذا ما فعله الشاعر العراقي البارز حاتف الجنابي، المقيم في بولندا منذ نصف قرن. ففي مارس 2021 أصدر من دار المدى للنشر في بغداد–بيروت عملًا ضخمًا بعنوان «خمسة قرون من الشعر البولندي من كوخانوفسكي حتى عام 2020». وعلى امتداد 912 صفحة جمع أكثر من 400 قصيدة لـ65 شاعرًا وشاعرة بولنديين بترتيبٍ زمني. وكان الجنابي قد ترجم سابقًا أعمال كُتّابٍ وشعراء مثل آدم ميكيفيتش، تشيسواف ميووش، فيسوافا شيمبورسكا، يوليوش سواڤاتسكي، زبيغنيف هربرت، تاديوش روزيفيتش، ستانيسواف لِم، ستانيسواف غروخوڤياك، آدم زاغايڤسكي، إدوارد ستاخورا، رافاو ڤوياشِك، ريشارد كابوشينسكي، أولغا توكارتشوك، وليشِك كواكوفسكي. من المعروف منذ زمنٍ بعيد مدى حبّ العراقيين للأدب. ويقول المثل العربي القديم: في القاهرة يُكتب، وفي بيروت يُطبع، وفي بغداد يُقرأ. وعلى ضفاف دجلة وُلدت أعمال عمالقة الأدب العربي مثل المتنبي وأبي نواس. عاش المتنبي في زمنٍ لم تكن فيه على نهر الفيستولا بعدُ أعمال أدبية، وكانت بولندا ما تزال تتأسس في عهد أول حكّامها المسيحيين، ميزكو الأول. بعد نحو تسعمئة عام، أُعجب شاعر بولندا الأعظم آدم ميكيفيتش بجمال شعر المتنبي—الذي وصل إليه غالبًا عبر الترجمات الفرنسية—فكتب قصيدته «المتنبي» المستوحاة من إحدى قصائده. لم تكن القصيدة ترجمةً حرفية بل كانت إعادة صياغة بارعة وتماهٍ مع موقف الشاعر العربي—الكبرياء والشجاعة البدوية—وهو ما انسجم تمامًا مع روح الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر. يعرف الجميع في بولندا قصص «ألف ليلة وليلة»، وإن لم يدرك الجميع صلتها الوثيقة بالعراق. وقد عمل مستعربون بولنديون بارزون مثل الأستاذ يوسِف بيلاڤسكي، مؤلف كتاب الأدب العربي الكلاسيكي، والأستاذ يانوش دانِتسكي، على ترجمة الأدب العراقي الكلاسيكي والحديث ونشره. وفي عام 1977 خُصص عددٌ كامل من مجلة «الأدب في العالم» (Literatura na świecie) للأدب العربي، وخصوصًا للأدب العراقي. العراق والحرب في الأدب والسينما البولنديةجعلت التجارب الصعبة التي مرّ بها العراق في العقود الأخيرة البلاد ترتبط في الوعي البولندي بالحرب. ونتيجةً لذلك أصبحت الموضوعات العراقية في الأدب والسينما البولندية مرتبطةً بالحرب أيضًا، وغالبية الأعمال خلال السنوات الأخيرة تنتمي إلى أدب الواقع والوثائقية. وأبرز ترجمة بولندية للأدب العراقي الحديث في السنوات الماضية هي رواية «فرانكنشتاين في بغداد» للكاتب أحمد سعداوي، التي نُشرت في بولندا عام 2018، وتدور أحداثها في بغداد في فترة الاضطراب التي أعقبت سقوط صدام حسين. ومن بين الكتّاب البولنديين الذين لا يمكن تجاهلهم عند تناول الموضوع العراقي في الأدب البولندي المعاصر مارتسين فالينسكي، وهو دبلوماسي سابق وعقيد متقاعد في الاستخبارات البولندية. أمضى فالينسكي سنواتٍ طويلة في العراق، بما في ذلك خلال الحرب ضد داعش. غير أن إلهامه لكتابه الأول جاء من أحداث الحرب العالمية الثانية، إذ عبر الجيش البولندي أثناء الحرب من الاتحاد السوفيتي عبر العراق في طريقه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية.كتب فالينسكي مع ماريك كوزوبال ثلاثيةً جاسوسية عام 2019، تجري أحداثها في زمنين مختلفين: الأول خلال الحرب العالمية الثانية، والثاني في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في البُعد الأول البطل هو الجندي والعميل البولندي ميتشيسواف كلاينر، المكلف بمهمة إنقاذ الأعمال الفنية البولندية المهددة بالنهب الألماني والسوفيتي. أما في البُعد الثاني، فالبطل هو العقيد مارسين وودينا، أحد أبرز ضباط الاستخبارات البولندية المتمركزين في العراق، الذي يحاول في الجزء الأول من الثلاثية، في كتاب «عملية رافائيل»، كشف مصير لوحة «بورتريه الشاب» للفنان رافائيل سانتي التي اختفت خلال الحرب العالمية الثانية. وفي مساره يصطدم بوكلاء روس يعملون في العراق. قادت نجاحات فالينسكي الأدبية إلى مزيدٍ من الروايات التجسسية وإلى التخطيط لتحويل «عملية رافائيل» إلى فيلم سينمائي. ويُذكر أن المؤلف قدّم وصفًا متقنًا للواقع العراقي قديمًا وحديثًا، فكتبه مليئة بتفاصيل العادات والمطبخ والعمارة والطبيعة العراقية، مما يُتيح للقارئ البولندي فهمًا أعمق لهذا البلد. كما يجدر الإشارة إلى فيلمين بولنديين دارت أحداثهما في العراق:الأول «عملية ساموم» أخرجه فلاديسواف باسيكوفسكي عام 1999، ويروي قصة إحدى المهمات السرّية البولندية في العراق عام 1990.أما الثاني «كربلاء» من إخراج كشيشتوف فوكاشيفيتش، فتدور أحداثه خلال الحرب الأهلية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين. أُنتج الفيلم عام 2015 بالاستناد إلى تقارير الحرب التي كتبها مارتسين غوركا وآدم زادڤورني والكتاب السيري لـغريغوج كاليتسياك. مراسلو الحروب والتبادل الثقافيتشتهر بولندا بتقاليدها الأدبية في صحافة الحروب، وقد نال ريشارد كابوشينسكي شهرة عالمية في القرن العشرين. لذلك ليس من المستغرب أن تُكتب عدة كتب من هذا النوع عن سقوط صدام حسين والاحتلال والحرب الأهلية والحرب ضد داعش. كرّس الصحفي البولندي البارز بافاو سمولينسكي كتابين عن العراق. الأول بعنوان «العراق، جحيم في الجنة» صدر عام 2004 بعد سقوط صدام مباشرةً، وصوّر واقع بداية الاحتلال وحكم الديكتاتور الدموي. أما الثاني، الصادر عام 2016 بعنوان «اللوز الأخضر أو لماذا يحتاج العالم إلى الأكراد»، فقد نقل القارئ البولندي إلى كردستان العراق.ويُذكر أيضًا كتاب الصحفي بيوتر كراشكو «العراق في الحرب» الصادر عام 2012، وكتاب المراسل الحربي ماريُوش زافادسكي «العراق الجديد الرائع» في العام نفسه. وفي عام 2008 نشر الدبلوماسي البولندي البارز رومان خالاتشكيفيتش، سفير بولندا في العراق بين عامي 1997 و2002، كتابه «غروب الديكتاتور: العراق بعينيّ»، الذي قدّم رؤيةً فريدةً عن السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين. وفي عام 2014، بعد هجوم داعش على الموصل، عندما اجتاحت وسائل الإعلام العالمية موجة من الآراء ترى أن العراق دولة فاشلة تواجه التفكك، قرر الصحفي فيتولد ريبِتوفيتش دحض هذه الصورة السلبية للعراق. اعتمد كتابه «الله أكبر: الحرب والسلام في العراق» على تجاربه الشخصية كمراسلٍ حربي وعلى رحلاته ومقابلاته في مناطق العراق غير المتأثرة بالحرب، ومن هنا جاء ذكر كلمة «السلام» في العنوان. فالكتاب أكثر من مجرد تقريرٍ حربي، إذ يحتوي أيضًا على شهادات من القتال الذي خاضته القوات العراقية كافة ضد داعش، ومقابلات مع اللاجئين، ويقدّم خلفية تاريخية وسياسية واجتماعية أوسع مرفقة بوصفٍ لمدن بغداد والنجف وكربلاء والأنبار ونينوى وكردستان وغيرها. وكان ريبِتوفيتش قد نشر قبل ذلك كتابه «اسمي كردستان»، الذي خصّص جزءًا كبيرًا منه لعادات وتاريخ الأكراد العراقيين. ولا يقتصر التعاون الثقافي بين بولندا والعراق على الأدب. فقد زار فنانون عراقيون بولندا مراتٍ عديدة، وأدّى فنانون بولنديون عروضهم في العراق. على سبيل المثال، في أكتوبر 2010 قدّم فريق كيتشيرا للغناء والرقص الليمكي من مدينة ليغنيتسا عروضًا في مهرجان بمدينة السليمانية الكردية، بينما كان قد زار بولندا قبلها فريقٌ كردي للمشاركة في مهرجانٍ مماثل في ليغنيتسا. كما تُنظم في بولندا بانتظام معارض مخصصة لثقافة الأكراد العراقيين. ويجب تعزيز هذا الاتجاه، فكلٌّ من بولندا والعراق يمتلك ثقافة غنية للغاية، والتعرّف المتبادل بينهما يوسّع آفاق المجتمعين ويُسهم في

التعاون الأمني بين بولندا والعراق يشمل أيضًا المساعدات الإنسانية

تفهم بولندا أهمية استقرار العراق للأمن الدولي وترى أن هذا الموضوع يجب النظر إليه على نحوٍ شامل. فعندما سيطر تنظيم داعش على مساحاتٍ واسعة من العراق عام 2014، كان تحرير تلك المناطق وتدمير هذا التنظيم الإرهابي في مصلحة ليس العراق فحسب، بل العالم المتحضر بأسره، بما في ذلك بولندا. ولم تتطلّب مكافحة داعش الجهد العسكري فقط، بل المساعدة الإنسانية أيضًا. يزدهر الإرهابيون على المشاعر السلبية مثل الشعور بالظلم، والرغبة في الانتقام، والكراهية، ويستغلون الأوضاع الصعبة للتلاعب بعقول اليائسين، وخصوصًا الأطفال والشباب. ولهذا السبب نفذت منظمات إنسانية بولندية مثل المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) والعمل الإنساني البولندي (PAH) والبعثة الطبية البولندية (PMM) وحُرّاس النسر وكاريتاس وعون الكنيسة المتألمة العديد من مشاريع المساعدة في العراق. وقد قُدمت المساعدات البولندية مباشرةً عبر تمويل وزارة الخارجية البولندية لمشاريع المنظمات المذكورة وجمع التبرعات، وكذلك بشكلٍ غير مباشر عبر المساهمات في صناديق الأمم المتحدة المخصّصة لمشاريع في العراق. يُعد العمل الإنساني البولندي (PAH) من أشهر المنظمات الإغاثية وأكثرها خبرة في بولندا. وفي العراق، ومنذ عام 2016، كان يقدّم المساعدة للأسر المتضررة من داعش، بما في ذلك النازحون من المناطق التي استولى عليها الإرهابيون. وتركزت أنشطة PAH أساسًا في إقليم كردستان ومدينة الموصل. وفي إقليم كردستان شملت المساعدات تقديم الدعم الطارئ والمالي لأفقر الأسر، والتدريب المهني، والمساعدة القانونية، بما في ذلك مساعدة الأطفال الذين حرموا من الوثائق الثبوتية بسبب الحرب على استخراجها. وفي مخيمات النازحين داخليًا وفّرت المنظمة الوصول إلى مياه نظيفة وأدارت جمع النفايات وبناء أنظمة تصريف الصرف الصحي. وأولت المنظمة أهمية كبيرة للترويج لممارسات النظافة، مع مراعاة الظروف الاجتماعية المحلية؛ لذا فُصلت المراحيض والحمامات حسب الجنس، ووُفرت الإضاءة لضمان الوصول الآمن إليها. كما قامت PAH بتوظيف سكان المخيمات في هذه الأنشطة لتأمين فرص عمل ومصدر دخل لهم. وفي الموصل، كانت PAH من أوائل المنظمات التي دخلت الأحياء الشرقية للمدينة أثناء تحريرها على يد القوات العراقية لمساعدة السكان على تجاوز تلك الفترة الصعبة. ونفّذت فرق PAH جهودًا مكثفة لتحسين معايير النظافة وتثقيف المجتمع المحلي حول الوقاية من العدوى. إضافةً إلى ذلك، وبالتعاون مع مديرية التربية، حدّثت PAH البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في 11 مدرسة وشاركت في إعادة إعمار شبكات المياه والمجاري. اكتسب المركز البولندي للمساعدة الدولية (PCPM) سمعةً كواحد من أفضل المنظمات الإنسانية في العالم. ففي عام 2018 قدّم 500 منزلٍ معياري مجهّز بالكامل للعائلات العائدة إلى الموصل التي دمّرتها الحرب. ووفّرت هذه المنازل مأوى مؤقتًا ريثما تُعاد إعمار المساكن الدائمة، وأصبحت رمزًا للمساعدة البولندية. علاوةً على ذلك، نفّذ PCPM مشاريع هدفت إلى إعادة بناء الإمكانات الاقتصادية للمنطقة، على سبيل المثال من خلال إنشاء سوق محلي في بلدة تلكيف يتيح للمزارعين بيع منتجاتهم. كما نفّذت المنظمة تدريبات وقدّمت دعمًا مؤسسيًا على شكل مساعدةٍ للحكومات المحلية في التخطيط العمراني وإدارة الأزمات. ومنذ عام 2016 ركّزت البعثة الطبية البولندية (PMM) نشاطها في العراق على تقديم الرعاية الصحية للاجئين والنازحين داخليًا. ولهذا الغرض شغّلت عيادات ثابتة في مخيمات اللاجئين (بما في ذلك بهركه وحرشام) وعيادات متنقلة تصل إلى القرى النائية لتقديم الرعاية الصحية الأساسية فضلًا عن الاستشارات للأطفال والنساء. كما أطلقت المنظمة عيادات للأسنان داخل المخيمات، ميسّرةً الوصول إلى خدمات غالبًا ما كانت متعذّرة ماليًا على اللاجئين. وقدّمت كذلك دعمًا نفسيًا للمصابين بصدمات الحرب وضغوط النزوح. ومن المنظمات المنخرطة بقوة في مساعدة العراقيين حُرّاس النسر. فقد خطرت فكرة تقديم المساعدة الإنسانية لمؤسسها بارتوش روتكوفسكي وهو في منزله يشاهد تقريرًا تلفزيونيًا عن مأساة الإيزيديين. وبعد بضعة أشهر توجّه إلى العراق مع أول شحنة مساعدات. وتدعم هذه المنظمة على وجه الخصوص مركزًا للأطفال والنساء الإيزيديات في خنكة، وتساعد في تلبية احتياجاتهم الأساسية مثل شراء الوقود للحافلة والمولّد الكهربائي والقرطاسية المدرسية. كما ساعدت حُرّاس النسر سكان المدن والقرى في نينوى التي حُرّرت من احتلال داعش عبر الإسهام في إعادة بناء المنازل وخلق فرص عمل (مثل دعم المشاريع العائلية الصغيرة كصالونات الحلاقة والورش الميكانيكية من خلال تزويدها بالمعدات)، ودعم الزراعة (مثل المساعدة في شراء الماشية)، وبناء وتجهيز المدارس والمراكز المجتمعية، وتمويل الدورات المهنية للبالغين، وخصوصًا النساء. وقدّمت المنظمات الكاثوليكية مثل كاريتاس وعون الكنيسة المتألمة المساعدة أيضًا. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المساعدات لم تكن موجهة للمسيحيين حصرًا، ولم ترفض هذه المنظمات مساعدة أي شخص على أساس ديانته. وكانت كاريتاس من أوائل المنظمات التي استجابت لأحداث عام 2014 المأساوية في العراق، وبالتعاون مع وزارة الخارجية البولندية ووزارة الدفاع الوطني، أوصلت أولى المساعدات العينية إلى اللاجئين. كما موّلت المنظمة تشغيل عيادة متنقلة ودعمت مشاريع تعليمية للأطفال المتأثرين بالنزاع. أما عون الكنيسة المتألمة فقد دعمت بالأساس إعادة إعمار المنازل في سهل نينوى، بما في ذلك في مدن مثل قره قوش وكرمليس وبرطلة. وبفضل دعمها أُعيد بناء نحو 14 ألف منزلٍ مدمّر. وساعدت المنظمة أيضًا في إعادة إعمار الكنائس وقدّمت مساعدات طارئة، ولا سيما لمئات الآلاف من المسيحيين الذين فرّوا إلى إقليم كردستان خلال الحرب مع داعش. وقد زوّدتهم بالغذاء وسدّدت إيجارات الشقق، ومولت مدارس مؤقتة داخل حاويات لضمان استمرارية تعليم الأطفال. ويجدر إضافة أن تقديم مثل هذه المساعدات في فترة حرجة بالنسبة للعراق أسهم أيضًا في الحد من الهجرة من العراق إلى أوروبا، وهي ظاهرة سلبية بالنسبة للعراق والدول الأوروبية على حدٍ سواء. فمن منظور العراق كان ذلك يعني في كثير من الأحيان فقدان طاقاتٍ بشرية وعقولٍ يحتاجها البلد بشدة في تلك الأوقات العصيبة. وإضافة إلى ذلك، انخدع كثير من العراقيين بصورةٍ زائفة عن حياةٍ مزدهرة في أوروبا، وكثيرًا ما رغبوا بعد مواجهة الواقع في العودة إلى وطنهم بعد أن خسروا أموال السفر ودفعوا لوسطاء غالبًا ما كانوا مجرد محتالين. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد أن بدأت بيلاروسيا وروسيا في تسليع ملف المهاجرين في إطار عمليةٍ هجينة ضد بولندا، ما أدى إلى مآسٍ لكثير من العراقيين. لذلك تسعى بولندا إلى التعاون مع العراق لمواجهة هذه الظاهرة السلبية. وإضافةً إلى المساعدات الإنسانية في فترة أزمة العراق، يشمل ذلك التعاون في مكافحة التضليل حول الهجرة ومكافحة المحتالين والمجرمين الذين ينظمون الاتجار بالبشر. كما انضمّت بولندا إلى الائتلاف الدولي لمحاربة داعش ضمن عملية العزم الصلب (Operation Inherent Resolve). ومنذ عام 2016 يتمركز في العراق قوامٌ عسكري بولندي يبلغ 350 جنديًا يؤدّي مهام التدريب والإسناد والاستشارة الفنية. ويقدّم المدربون البولنديون، ومعظمهم من القوات الخاصة، تدريباتٍ متقدمةً للقوات الخاصة العراقية، ما يحسّن قدرتها على تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب بصورةٍ مستقلة. كما يدرّب المختصون البولنديون الكوادر الفنية العراقية على تشغيل وصيانة وإصلاح المعدات العسكرية، بما في ذلك المعدات ذات المنشأ السوفيتي السابق، ما يعزّز استقلالية الجيش العراقي وفعاليته. ويوفر فصيلٌ هندسي بولندي المشورة والتدريب على إنشاء وصيانة التحصينات وعلى

الطعام، الطرق، والجسور: بولندا في العراق اليوم، في الماضي، وفي المستقبل

تُعد بولندا واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين للعراق في الاتحاد الأوروبي، وتشهد التجارة بين البلدين نموًا مستمرًا. وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن أيام المجد التي شهدها التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فإنها بلا شك تكتسب زخمًا واضحًا، وتُظهر اتجاهًا تصاعديًا واضحًا، وتفتح آفاقًا جديدة أمام رجال الأعمال البولنديين في هذا السوق الواعد، وإن كان يتطلب الكثير. فبعد سنواتٍ من عدم الاستقرار، أصبح العراق شريكًا تجاريًا متزايد الأهمية لبولندا في الشرق الأوسط، وهو ما تؤكده المؤشرات التجارية الصاعدة وتكثيف الاتصالات السياسية والاقتصادية. وعلى وجه الخصوص، تضاعفت قيمة الصادرات البولندية إلى العراق خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما يُعد مؤشرًا جيدًا جدًا للمستقبل. تُصدر بولندا إلى العراق بالأساس المنتجات الزراعية والغذائية. فالأغذية البولندية، بما في ذلك منتجات الألبان، ومشتقات الحبوب، واللحوم، تحظى بتقديرٍ كبير من المستهلكين العراقيين. وتشمل مجموعات السلع الأخرى المُصدَّرة إلى السوق العراقي المنتجات الكيماوية، والآلات والمعدات (وخاصة تلك المستخدمة في الزراعة والصناعة)، إضافةً إلى المعادن الأساسية ومنتجاتها. وفي المستقبل، يمكن لبولندا أيضًا أن تطوّر تعاونها مع العراق في قطاعات الطب والصيدلة، خاصةً وأنها وجهة مشهورة للسياحة العلاجية القادمة من العراق. كما تستطيع بولندا أن تقدّم دعمها للعراق في مجال تحديث الزراعة وإدارة الموارد المائية ونقل التكنولوجيا في هذا المجال. ويُظهر اهتمام العراق بمثل هذا التعاون زيارة وفدٍ عراقي من لجان الزراعة والمياه والاقتصاد والتجارة في البرلمان العراقي، التي جرت في ديسمبر 2024. التقى الوفد بممثلين عن غرفة التجارة البولندية، وزار شركة SPAW-MET للآلات الزراعية، حيث تم توقيع خطاب نوايا للتعاون. كما يتطور التعاون أيضًا على مستوى الغرف التجارية المحلية وحكومات المقاطعات، وخاصة في مقاطعات بولندا الكبرى، وبولندا الصغرى، وبودكارباتشيه، إضافة إلى الغرفة الغربية للتجارة، والمنطقة الاقتصادية في ستاراخوفيتسه، وجمعية المبتكرين الريفيين. يمكن أن يمتد التعاون الاقتصادي البولندي-العراقي أيضًا إلى مجالاتٍ أخرى، وخصوصًا الطاقة. فقد اشترت بولندا النفط العراقي في السابق، ويمكنها أن تدعم بخبرتها تطوير سوق تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة في العراق، والتحول الطاقي، وتطوير قطاع الاستخراج. كما يُعد توريد المعدات العسكرية قطاعًا واعدًا. إضافة إلى ذلك، تمتلك بولندا خبرةً واسعة في تحديث الطرق والسكك الحديدية، وهي أيضًا مصنّع للمعدات والعربات الحديدية، مما يجعلها شريكًا ممتازًا للعراق في تنفيذ مشروع البنية التحتية المعروف باسم “طريق التنمية” أو “القناة الجافة”، الهادف إلى ربط الخليج العربي بأوروبا. ومن الجدير بالذكر أن لبولندا تاريخًا طويلاً في تنفيذ المشاريع البنية التحتية في العراق، وأن مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1 في العراق اكتسبت تقديرًا كبيرًا ولا تزال تُذكر حتى اليوم. تاريخ البنية التحتية البولندية في العراقبدأ التعاون الاقتصادي بين بولندا والعراق رسميًا عام 1959 بتوقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني. وتميزت هذه الفترة بمشاركة الشركات البولندية الفعّالة في مشاريع البناء والصناعة في العراق. وكان العراق بالنسبة لبولندا أحد أهم الشركاء التجاريين في الشرق الأوسط. في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، نفذت شركات بولندية مثل Polimex-Cekop وBudimex وDromex وElektromontaż وNaftobudowa نحو 25 مشروعًا استثماريًا ضخمًا في العراق. وشملت هذه المشاريع: بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين ما بين 200 و250 مليون دولار سنويًا. وكان العنصر الأساسي في الصادرات البولندية، إلى جانب خدمات البناء، هو توريد المعدات العسكرية، التي شكلت أكثر من 70٪ من الصادرات، بينما كان النفط الخام هو الاستيراد الرئيسي لبولندا. ويُقدَّر أن نحو 50 ألف بولندي عملوا في العراق خلال هذين العقدين. ولم تخلُ هذه الأعمال من الخسائر، إذ توفي حوالي 50 عاملًا بولنديًا في حوادث، معظمها أثناء بناء الطريق السريع. وتحمل حادثة وفاة تيريزا روزنوفسكا، التي كانت تعمل في مركزٍ طبي تابع لشركة Dromex وكانت زوجة أحد مديري فروع الشركة في العراق، ليش روزنوفسكي، مكانةً خاصة في ذاكرة العراقيين. فقد أثبت السفير البولندي الأسبق في العراق، كشيشتوف فومينسكي، أنها توفيت في حادث أثناء توجهها من معسكر تل لحم نحو الناصرية، وأن قبرها الرمزي في موقع الحادث موّله زوجها. ولا يزال هذا القبر قائمًا حتى اليوم، وقد ارتبط بأسطورة رومانسية في ذاكرة السكان المحليين حول فتاةٍ بولندية شابة تُعرف في العراق باسم “تالا”، جاءت لزيارة خطيبها المهندس في عيد الميلاد عام 1982. وكما كتب فومينسكي: «كان الخطيب يأتي إلى قبرها بالزهور يوميًا لعدة سنوات حتى نهاية عمله في العراق. وأصبح المكان رمزيًا وما زال يحتفظ بهذه المكانة في وجدان السكان المحليين حتى اليوم. تحوّل إلى أسطورة غامضة مع مرور الزمن، والحروب المتعاقبة، وضعف ذاكرة البشر. وقد أعيد ذكرها مؤخرًا في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي المحلية، التي أثارت اهتمام الإعلام البولندي والصحفيين الأوروبيين عند تداولها». كان أول مشروعٍ بنته بولندا في العراق هو جسر دجلة قرب تكريت، الذي أنجزته شركة Budimex-Cekop بين عامي 1969 و1971. وهو جسر خرساني سابق الإجهاد يبلغ طوله 800 متر وله أهمية استراتيجية كبيرة للعراق. قاد العمل حينها المهندس زيجمونت باتر، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عامًا فقط، وقد حصل على درجة الماجستير في الهندسة المدنية المتخصصة في الجسور والهياكل التحتية من جامعة وارسو للتكنولوجيا قبل خمس سنوات فقط. اكتسب باتر شهرة كأحد أبرز مهندسي الجسور البولنديين، وعاد إلى العراق عام 1980 ليعمل كبير المهندسين في شركة Dromex لمشاريع الاتصالات والبناء الخارجي. كان العراق آنذاك من أسرع الدول العربية نموًا، وقد سمحت له عائدات النفط بتمويل عملية التحديث. أما بولندا فكانت تملك يدًا عاملة رخيصة لكنها شديدة الكفاءة. وبعد بناء الجسر في تكريت، جاءت طلبيات جديدة شملت مصانع السكر والأسمنت والصلب، والمجمعات السكنية، والقنوات، والسدود. ومع ذلك، فإن أعظم إنجازٍ استثماري لبولندا في العراق كان مشاركة شركة Dromex في بناء الطريق السريع رقم 1، الذي يربط ميناء أم قصر على الخليج العربي بمدينة الرمادي في محافظة الأنبار، حيث يتفرع إلى قسمين يؤديان إلى الحدود مع الأردن وسوريا. يبلغ طول هذا الطريق 1200 كيلومتر ويمر عبر البصرة والناصرية والديوانية والحلة وبغداد والفلوجة والرمادي. بين عامي 1981 و1989، بنى البولنديون مقطعين رئيسيين من أصل 13 قسمًا، بلغ مجموع طولهما 220 كيلومترًا. كان أول قسمٍ تبنّته شركة Dromex هو المسمى R/7 من الناصرية إلى الرميلة في محافظة البصرة، وبلغت قيمته حينها 300 مليون دولار. وكان المشروع صعبًا جدًا من الناحية اللوجستية والفنية. صُمم الطريق السريع وفق المعايير الألمانية الغربية باعتباره “غير قابل للتدمير”، مع مراعاة حمولة محورية قدرها 25 طنًا. واضطر مهندسو الطرق البولنديون إلى بناء ليس الطريق فقط، بل أيضًا جميع المرافق المساندة، بما في ذلك المقالع لاستخراج الركام (حوالي 55 ألف متر مكعب شهريًا)، ومصانع الخرسانة والإسفلت، ومئات الكيلومترات من طرق الخدمة، وخط سكة حديد بطول 55 كيلومترًا لنقل الركام. جرت الأعمال في ظروف مناخية قاسية للغاية بالنسبة للبولنديين، حيث بلغت درجات الحرارة 70 درجة مئوية. وكما يتذكر المهندس

علماء الآثار البولنديون في العراق

من المعروف أن علماء الآثار البولنديين يتمتعون بسمعة عالمية رفيعة المستوى، والعراق يُعد جنة لأي عالم آثار، إذ هو مهد الحضارة الإنسانية. وعلى عكس علماء الآثار في الحقبة الاستعمارية الذين حققوا اكتشافات مذهلة ولكنهم تسببوا أيضًا في تدمير ونهب واسع للتراث المحلي، فقد اكتسب البولنديون سمعة ممتازة في الشرق الأوسط.وصل البولنديون إلى العراق لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، في فترةٍ كانت فيها العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتطور كذلك. كان أول عالم آثار بولندي في العراق هو الشاب الموهوب يانوش ميوشينسكي، تلميذ الأستاذ الشهير كازيميش ميخالوفسكي، الذي عمل هناك بين عامي 1974 و1976. ركزت أبحاثه على المدينة الآشورية كالحو في موقع نمرود في نينوى. سعى ميوشينسكي إلى إعادة بناء الزخارف البارزة في قصر الملك آشور ناصر بال الثاني في القرن التاسع قبل الميلاد. ولسوء الحظ، ورغم النتائج الواعدة، انقطعت أعماله بسبب وفاته المبكرة، إذ قُتل في مرسين بتركيا عن عمرٍ لم يتجاوز الثلاثين عامًا. بعد فترةٍ وجيزة، بدأت بعثة أثرية بولندية جديدة أعمالها في جزيرة بيجان على نهر الفرات في محافظة الأنبار، بقيادة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي والدكتورة الراحلة ماريا كروغولسكا، وكلاهما من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو. وقد أُجريت الأعمال بين عامي 1979 و1983، وأسفرت عن اكتشاف حصنٍ آشوري جديد يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، مما وسّع المعرفة بخطوط التحصين التي كانت تحمي تلك الإمبراطورية القديمة. وفي ثمانينيات القرن الماضي، واصل فريق بقيادة الأستاذ الراحل ستيفان كوزوفسكي والأستاذ بيوتر بييلينسكي، وكلاهما من جامعة وارسو، العمل في مواقع مثل تل السعدية في محافظة ديالى، وتل رُجيم، وتل رَفّان، ومُلفآت في نينوى، ومصنع في الأنبار، ونِمريك 9 في محافظة دهوك ضمن إقليم كردستان الحالي. وكان العمل في الموقع الأخير، الذي أُجري بين عامي 1985 و1989، بالغ الأهمية والأهمية العلمية، إذ أدى إلى اكتشاف ووضع مخططٍ كامل لمستوطنةٍ من العصر الحجري الحديث، شملت بيوتًا محفوظة مع تجهيزاتها. ويعود هذا العصر إلى الفترة الواقعة بين نهاية الألف التاسعة ومنتصف الألف السابعة قبل الميلاد. كما عُثر على نحو عشرين تمثالًا حجريًا صغيرًا، معظمها يصوّر حيوانات، بينما كان اثنان منها ذا شكلٍ إنساني. وأظهرت الأبحاث أيضًا أنه بعد فترةٍ طويلة من الهجر، أُعيد إسكان الموقع قبل أربعة آلاف عام من قِبل الحوريين المنتمين إلى مملكة ميتاني.كتبت زينيا كولنسكا، التي سيُذكر اسمها لاحقًا، عن موقع نِمريك في كتابها «قدر العالِم الآثاري»: «هناك وُجدت للمرة الأولى في العالم قطع من فنون العصر الحجري الحديث. وبالنسبة للعراقيين، يُعد هذا المكان من أهم المواقع على الخريطة الأثرية—موازٍ في مكانته لمدن كِش وبابل ونينوى وكهف شانيدار». في عام 1990، انطلقت بعثة أثرية جديدة من المركز البولندي للآثار المتوسطية بجامعة وارسو، برئاسة الأستاذ ميخاو غافليكوفسكي، نحو العراق. وكانت وجهتها الجوهرة المعمارية في بلاد ما بين النهرين الواقعة على طريقٍ تجاري قديم يمر عبر صحراء نينوى، وهي طبعًا المدينة البارثية الخلابة والمدهشة «الحضر»، التي بُنيت في القرن الثالث قبل الميلاد. وكانت الحضر أول موقعٍ في العراق يُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1985. ركز عمل البولنديين في المقام الأول على تحصينات المدينة، لكن الحرب قطعت أعمالهم سريعًا. وقد تعرضت الحضر لأضرار جسيمة بين عامي 2014 و2017 عندما كانت تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي. وبعد أيام قليلة من طرد الإرهابيين من المنطقة، نُشر تقرير للصحفي فيتولد ريبِتوفيتش في وسائل الإعلام البولندية، بعد أن وصل إلى الموقع برفقة قوات الحشد الشعبي ووثّق حجم الدمار. اكتشافات جديدة وتحديات حديثةظهرت بعثة أثرية بولندية جديدة بعد سقوط نظام صدام حسين. كانت تلك فترةً صعبة بالنسبة للتراث الثقافي العراقي. فبعد نهب المتحف الوطني في بغداد، استغرق الأمر سنواتٍ طويلة وجهودًا كبيرة لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة. حاول علماء الآثار البولنديون حماية التراث العراقي المهدد في تلك المرحلة الحرجة. ومن الجدير بالذكر أن الكتيبة العسكرية البولندية كانت الوحيدة التي ضمّت في صفوفها علماء آثار مدنيين. كانت مهامهم الأساسية توثيق وحماية المواقع الأثرية المهددة، ودعم المؤسسات العراقية المعنية بالآثار، وتدريب الجنود على حماية المعالم. كما نفذوا عمليات استطلاع ميدانية، مستخدمين أحيانًا المروحيات العسكرية لتحديد المواقع المتضررة من أعمال النهب. وكان من أبرز إنجازاتهم المسح والتوثيق عام 2007 لأنقاض مدينة واسط الإسلامية، مما ساعد على تأمينها وحمايتها من النهب. في عام 2012، انطلقت بعثة أثرية من جامعة آدم ميكيفيتش بقيادة الأستاذ رافاو كولنسكي نحو العراق. وقد نافست إنجازاتها ما تحقق في منتصف الثمانينيات في موقع نِمريك 9. وأُجري العمل أيضًا في إقليم كردستان العراق، وكان كولنسكي نفسه ذا خبرة سابقة في العمل بالعراق، بما في ذلك في موقع نِمريك 9. وكما كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، وهي أيضًا عالمة آثار: «منذ أن أذكر، كان العراق دائمًا مجال اهتمام رافاو. ذهب إلى هناك لأول مرة عام 1985 بدعوة من الأستاذ بيوتر بييلينسكي للتنقيب في تل رُجيم. وفي العام التالي، رافق الأستاذ ستيفان كوزوفسكي في موقع نِمريك الشهير». يركز مشروع كولنسكي الحالي، المعنون «تاريخ الاستيطان في كردستان العراق»، والذي لا يزال مستمرًا، على جرد التراث الثقافي في منطقة تبلغ مساحتها 3000 كيلومتر مربع في حوض نهر الزاب الكبير. وشملت الأعمال مسوحات سطحية أفضت إلى تحديد أكثر من 300 موقع أثري تعود إلى عصورٍ مختلفة، من الثقافات ما قبل التاريخية (مثل ثقافة حسونة) إلى العصور الحديثة. ومن أبرز إنجازات البعثة اكتشاف أجزاء من نقشٍ صخري مدمر يعود إلى 4500 عام في منطقة غُندُك عام 2013، مما أتاح إعادة بناء جزئية له. ومن اللافت أن تدميره لم يحدث في العصور القديمة، بل في عام 1996. وكما أوضح الأستاذ كولنسكي في مقابلةٍ مع وكالة الأنباء البولندية: «قام مجموعة من الباحثين عن الكنوز من تركيا بوضع شحنةٍ متفجرة، وكان الهدف من التفجير فتح طريقٍ إلى كنوزٍ مزعومة خلف النقش. وبالطبع، لم يكن هناك أي كنز، لكن الدمار كان هائلًا». واعتبر الأستاذ كولنسكي أن فرادة اكتشافه تكمن، من بين أمور أخرى، في أن «ناجحنا في إعادة قطعة أثرية إلى العلم كانت تبدو مفقودة إلى الأبد». ساعدت أبحاث البعثة الأثرية البولندية في كردستان، التي شارك فيها أيضًا علماء من جامعة وارسو، على توضيح توسع ثقافة الورك (Uruk) المنحدرة من جنوب العراق إلى المناطق المجاورة في أواخر العصر النحاسي. إنها قصة مثيرة عن الغزوات والاستيطان في عصور ما قبل التاريخ، مدفونة في الأرض ومُسجلة في اللُقى الأثرية. وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ كولنسكي وفريقه كانوا يفكّون رموز هذه القصة بين عامي 2012 و2017، بينما كانت المعارك العنيفة ضد إرهابيي داعش تدور على بعد 50 إلى 60 كيلومترًا فقط من مواقعهم. وقد كتبت زوجته، زينيا كولنسكا، التي شاركت في البعثة، كتابها المميز «قدر العالِم الآثاري» الذي نُشر عام 2014. وعنوان الكتاب بحد ذاته لافت، إذ إن عالم الآثار يحفر غالبًا

دراسة البيئة المعلوماتية للعراق

  صدر هذا التقرير في إطار مشروع “ألباتروس الثاني – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)”، الهادف إلى مكافحة التضليل (المعلومات المضللة) والتهديدات المعلوماتية التي تستهدف القيم والمؤسسات الديمقراطية، وتضر بالعلاقات الدولية وتؤثر سلبًا على صورة بولندا في لبنان والعراق ومصر. دراسة تأثير التضليل والدعاية على مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) — تقرير، استراتيجيات الدفاع، وتطبيق التوصيات. يقدم هذا التقرير تحليلاً متعدد الأوجه للبيئة المعلوماتية العراقية، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد نوقش بالتفصيل تأثير وسائل الإعلام التقليدية والحديثة على تشكيل الرأي العام، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى أهمية أنشطة المجموعات العرقية والدينية المختلفة (السنة والشيعة والأكراد والتركمان)، والمنظمات السياسية، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية. كما قام مؤلفو التقرير بتحديد ديناميكيات التأثيرات الإعلامية الخارجية التي تمارسها دول وجهات دولية أخرى، والتي تستغل الحساسيات الاجتماعية والدينية لتعزيز رواياتها ومصالحها الخاصة. تتكون هذه الدراسة من عشرة فصول، يمكن للقارئ من خلالها الحصول على صورة شاملة للمشهد الإعلامي العراقي. يبدأ التقرير بمناقشة وسائل الإعلام المحلية (الحكومية والخاصة والإقليمية – مع التركيز بشكل خاص على إقليم كردستان العراق – وتلك المرتبطة بالجماعات الدينية والأقليات). تركز الفصول التالية على كيفية إدراك واستقبال المعلومات في المجتمع العراقي، بالإضافة إلى المجالات الرئيسية للتهديد والتلاعب، مع التشديد بشكل خاص على التأثيرات الخارجية الاقتصادية والأيديولوجية والجيوسياسية. ومن العناصر الهامة في التقرير القضايا التي تلامس الحساسيات النفسية والاجتماعية المحلية – صدمات الحرب، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والعلاقات القبلية المعقدة. تتضمن الخلاصة توصيات تساعد في فهم ومكافحة محاولات التضليل التي تستهدف بشكل خاص نظرة العراقيين إلى الغرب وبولندا في الفضاء المعلوماتي العراقي. قم بتنزيل التقرير الكامل هنا دراسة البيئة المعلوماتية في العراق   تثبت التحليلات المقدمة في التقرير أن سوق الإعلام العراقي شديد التنوع ومُسَيَّس بقوة. وتتوزع السيطرة على تداول المعلومات بين المؤسسات الحكومية والجهات الخاصة أو المذاهبية-الحزبية-العرقية المسؤولة عن البث. وتبقى الانقسامات العميقة في المجتمع، سواء على خلفية دينية-طائفية أو سياسية، عاملاً جوهرياً. ويشير التقرير إلى أن المتلقين الشباب يهيمنون على المجتمع العراقي، ويتزايد لجوؤهم إلى المصادر الإخبارية عبر الإنترنت، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا الجيل “الرقمي” معرض لعدد متزايد من الروايات المضللة، خاصة في المجالات الحساسة (مثل الدين، أو القضايا الأخلاقية والاجتماعية، أو التاريخ). تُعد الاستنتاجات المستخلصة من هذه الدراسة مفيدة لكل من مراقبي سوق الإعلام، والمحللين وصناع القرار، وكذلك جميع الأطراف المهتمة بالأمن المعلوماتي في العراق. ويُمثل هذا التقرير نتاج بحث حول آليات التأثير الدعائي في هذا البلد، ويمكن استخدامه للتخطيط لإجراءات تهدف إلى مكافحة التأثيرات الخارجية الضارة. ومن خلال إدراك الحقائق المتغيرة والتوترات الداخلية، يمكن لهذا التقرير أن يساعد في الاستعداد بشكل أفضل للتحديات التي تفرضها البيئة الإعلامية العراقية المعاصرة.